يظل الأمن والاستقرار سمتين لا تنفكان عن وصف وطننا، بالرغم من الحرب التي يفرضها الأعداء، للمرة الثانية على الحدود. ولذا كانت عاصفة الحزم، التي سطرت حتى الآن الكثير من البطولات لرجال قطعوا العهد بحماية الوطن، والحفاظ على أمن المواطن، خاصة في المناطق الحدودية.«عكاظ» رصدت في جولتها الميدانية على محافظات وقرى الشريط الحدودي التابعة لمنطقة جازان، يوميات العديد من المواطنين ورجال القوات المسلحة وحرس الحدود، ومظاهر الحزم والعزم للقوات السعودية بمختلف قطاعاتها، من أجل التصدي لأي محاولة اختراق لحدودنا، أو للأمن وللاستقرار الذي ننعم به، رغم كيد الأعداء.
كعادتي في جولاتي الميدانية، أشعر بالارتباك والحيرة وبأن الامور لن تجري وفق ما أريد. هذا ما كان يلازمني في جميع جولاتي الميدانية خارج المملكة، أما في هذه الجولة وهي الاولى من نوعها التي أرصد فيها وتيرة الحياة اليومية في منطقة من مناطق وطني، فقد زاد ارباكي انني سأزور القرى والمراكز الحدودية التابعة لمنطقة جازان، حيث يشهد بعضها مواجهات مسلحة بين قواتنا السعودية الباسلة ومليشيات جماعة الحوثي. وزاد من «إرباكي» تكليفي وبشكل مفاجئ بالقيام بالجولة، واصرار الزميل فيصل خماش أن اقوم بها.
كما أن اعتذار بعض المسؤولين في منطقة جازان عن اجراء اللقاءات الصحفية وفي ذاكم التوقيت، اصابني بالاحباط المبكر، لكن التوكل على الله سبحانه وتعالى هو المخرج الوحيد من هذه الدوامة، فهو المعين على النجاح والتوفيق، ولذا قررت الانطلاق الى مدينة جازان.
عادة ما يكون للمناطق الحدودية امتداداتها الاجتماعية والثقافية، وليس بغريب أن تنقسم قبيلة ما بين بلدين متجاورين، كما هو حال كثير من الدول ذات الحدود المشتركة.
ومنطقة جازان التي تجاور بعضا من محافظاتها الحدود اليمنية، ليست استثناء من ذلك، ولعلي أذكر هنا أن رئيس الوزراء اليمني الاسبق الدكتور حسن بن محمد مكي، كان من مواليد محافظة صبيا التابعة لمنطقة جازان. ولا يزال يختلج الكثير من المشاعر والذكريات للمنطقة وللمحافظة التي شهدت مسقط رأسه وطفولته، وهو ما عبر عنه في لقاء سابق جمعني به بمدينة جدة. الدكتور مكي الذي يعيش في صنعاء الان، له من الاشقاء والاقرباء «المواطنين» من كان ولا يزال يتبوأ عدة مناصب قيادية واكاديمية في المملكة. لن استفيض بذكر نماذج اخرى تؤكد على وجود الخواص الاجتماعية والتاريخية المشتركة التي تجمع بين الشعبين اليمني والسعودي، لكنني سأتطرق ببعض الاسهاب الى مشاعر المواطنين في مدينة جازان نحو حالة الحرب التي تشنها مليشيات جماعة الحوثي على حدود المملكة، وقراءتهم لتأثيرها على الواقع الديمغرافي لمنطقة جازان بشكل عام.يقول المواطن عبده منقري، إن القرى والمحافظات الحدودية كانت في السابق تشهد حركة كثيفة من المسافرين في ايام الاجازات والاعياد وخاصة يومي العطلة الاسبوعية. حين كانت عدة محافظات يمنية وخاصة محافظة حرض مقصدا للمتنزهين القادمين من منطقة جازان.
وتابع «في المرة الاولى التي حاول الحوثيون تهديد حدودنا لم تستمر حالة الحرب كثيرا، فما أن انتهت هذه الحرب حتى عادت الحياة مجددا الى طبيعتها في المناطق الحدودية بين اليمن والمملكة. لكن الوضع الان اختلف كثيرا جدا، حيث ادرك الجميع أن ايران وبالتحالف مع الرئيس المخلوع علي صالح وجماعة الحوثي تسعى الى الدخول الى المنطقة العربية من خلال اليمن، وبالتالي تهديد أمن المملكة، بعد أن استطاعت ايران السيطرة على مقدرات اليمنيين وقرارهم السياسي من خلال جماعة الحوثي.
حياة طبيعية
كنت اتوقع عند وصولي لمدينة جازان أن لا أجد فندقا شاغرا او شقة مفروشة تؤويني خلال جولتي على المحافظات والقرى الحدودية، باعتبار أن المنطقة قد شهدت حركة نزوح واسعة من تلك المناطق، لكنني وجدت العديد من خيارات السكن امامي. وما لفت نظري في هذا الصدد رؤية عدد ليس بالقليل من الاخوة اليمنيين العاملين في مجال الاستقبال بعدد من الفنادق ودور الايواء، حيث اكدوا أن حالة التوتر في المناطق الحدودية بين اليمن والمملكة لم تؤثر اطلاقا على تعامل المواطنين السعوديين تجاههم، ولا على ايجاد فرص عمل تناسب قدراتهم العملية». ليس في مدينة جازان أيد مظاهر للاستنفار العسكري أو الامني رغم أنها لا تبعد عن الحدود المشتركة سوى 90 كيلو مترا تقريبا، فالحياة في هذه المدينة الحالمة طبيعية جدا. سوى من بعض مظاهر الفرح التي تخللت اقامة الجولة الاولى من الانتخابات البلدية، والتي كان الاقبال فيها جيدا جدا من قبل المواطنين.
وفي المقابل كنت أنا من يعيش حالة استنفار منذ وصولي الى مطار الملك عبدالله، ومنه الى مقر قيادة حرس الحدود بمنطقة جازان، حيث التقيت اللواء محيا العتيبي قائد حرس حدود المنطقة، الذي اشار الى عمق العلاقات التي تجمع بين الشعبين السعودي واليمني، وأكد على الروح القتالية لأبنائه الضباط والافراد رجال حرس الحدود في الدفاع عن حدود الوطن ضد عمليات التهريب المختلفة.
انتقلت بعدها الى محافظة الطوال، المحافظة الحدودية الأكبر من حيث المساحة وعدد السكان والتي تعد بوابة العبور الى اليمن. لكن وقبل الحديث عن محافظة الطوال والانتقال الى حلقة اخرى تحكي واقع الحياة في المحافظات والقرى الحدودية، اود الاشارة الى ما رصدته «عكاظ» من مشاعر فرح وشكر رفعها عدد من الاخوة اليمنيين لقيادة هذه البلاد، التي امرت بتعديل اوضاع المخالفين منهم للانظمة، وتمديد فترة اقامتهم، منوهين بأن المملكة طالما وقفت الى جوارهم في احلك الظروف، لاسيما في هذا الوقت الذي تشهد فيه الساحة اليمنية مخاضا صعبا، يتطلب طرد الانقلابيين ووقف التدخلات الخارجية في الشأن اليمني.. حتى يولد اليمن السعيد من جديد.
رحلة السفر
بدأت العقبات تتوالد قبل سفري الى مدينة جازان، فقد سبق ذلك نقلي الى قسم اخر، حيث لا تزال اغراض مكتبي مرماة على الارض في انتظار من يشفع لي عند المسؤولين في ادارة التحرير، الذين طالبوني بالانتظار للحصول على مكتب، وبالحجز لدى الخطوط السعودية حتى اتمكن من السفر، فكان لهم ما أرادوا لكن حجزي تم الغاؤه بسبب عدم شراء التذكرة من قبل الادارة الموقرة، التي قامت لاحقا بحجز سفري على طيران ناس. وقبل الرحلة بساعات معدودة قمت بتمشيط معظم الاسواق في مدينة جدة، بحثا عن جهاز تسجيل كاسيت، لكن بحثي المضني لم يسفر الا بالكشف عن حقيقة أن الزمن تجاوز الكاسيت الى اجهزة التسجيل الالكتروني «إم 3»، كحال كاميرتي الديجيتال التي تجاوزها الزمن ايضا، فاصبحت كالقواعد من النساء لا يرجون نكاحا. كان السفر ذهابا عبر شركة طيران ناس، مفاجأة اخرى، حيث لم يسبق لي السفر من خلال هذه الشركة التي كان يراودني شك في مستوى الخدمات التي تقدمها للمسافرين. لكن بعد أن استقللت احدى طائراتها وجدت أن الشركة تقدم مستوى من الخدمة لا بأس به، في ظل استحواذ الناقل الرسمي «السعودية» على جل خدمات المسافرين في المملكة.
الإقلاع لجازان
منذ أن اقلعت الطائرة من مطار الملك عبدالعزيز متوجهة الى مدينة جازان، بدأت التساؤلات تطاردني الى أن أصبحت أسأل: ما الذي سأقدمه في جولة الرصد الميداني للقرى والمحافظات الحدودية بمنطقة جازان، والتي سبقني اليها العديد من الصحفيين الذين جاءوا للمنطقة زرافات ووحدانا. تلك التساؤلات اعتصرت تفكيري وأسلمتني لحالة من السرحان العميق، لم افق منها الا وأنا في مطار الملك عبدالله بجازان. في المطار صرت أتأمل وجوه القادمين اليها ريثما يأتي زميلي المصور محمد القيسي، ليقلني الى وجهة لم احددها بعد، هل هي الفندق او مقر قيادة سلاح الحدود او الى القرى والمحافظات الحدودية ام الى مكتب «عكاظ» في جازان. وجوه الجازانيين كانت تدعو للتفاؤل بنجاج مهمتي، فهي أشبه بعناوين لا تخطئها العين، تحكي ثقافة وملمحا اجتماعيا خاصا لأهالي جازان. الذين تشبه أعناقهم الممتدة في السماء نباتات الفل والكادي.. لكنها لا تنحني.
هم كذلك الجازانيون، لهم ملمحهم الاجتماعي وعاداتهم الاصيلة الراسخة، التي يدافعون عنها، جنبا الى جنب مع اشقائهم في الوطن والمصير.