في كل مكان أذهب إليه، وفي أيّ حوار يُثار حول الأوضاع المتردية في اليمن والدول العربية الأخرى، يتم الزج بـ"المثقف" إلى خشبة المسرح، وإجباره على القيام بدور البطولة - بعد انسحاب الجمهور وفراغ الصالة - بهدف تحميله مسؤولية فشل العرض المسرحي، والتستر على "النجم" الذي أفسد كل شيء بسبب نقص موهبته.
يُلقّن رجل الشارع العادي أن المثقف هو المسؤول وحده عمّا يجري. فهو السبب في الحروب الأهلية وتلاشي كيان الدولة، وهو الفأر الذي قرض كل منجزات الحكومات الوطنية، وهو معول الهدم، والشخص المشكوك في وطنيته، ومُروّج الآراء والأفكار التي فكّكت النسيج الاجتماعي، والموتور الخارج من الصف، والخائن الذي باع واشترى في المبادئ على حساب الأمة.
ونجد من يزعم أن انهيار المنظومة التعليمية، وتدني الخدمات الصحية، وتوطن الفساد المالي والإداري في الدوائر الرسمية مرده ذلك الكائن الفضائي المسمى "المثقف".
مُسرنمون كثيرون يرددون هذه الأسطوانة العتيقة التي تعمل على أجهزة فونوغراف لم تعد متوافرة في الأسواق. يرددونها ليل نهار، في مقرات الدولة وفي المقاهي، ثم يذهبون للنوم بضمائر مرتاحة متخففة من عقدة الذنب وشقاء الفهم.
هذا الطرح التبسيطي المُغلف بطبقة سامة من الخبث، يحمل مغالطة قد تنطلي على الشعب لبعض الوقت، إلا إنه في "لحظة الحقيقة" لن يجدي هذا الطرح المتهافت فتيلًا.
عندما انكشفت عورات الأنظمة العسكرية في عام 2011، لم تعد ورقة المثقفين صالحة للمناورة بها، كما أن الاستمرار الغبي في تشويه سمعة المثقفين وازدرائهم وتوجيه شتى التهم إليهم، ما عاد بإمكانه ستر عري هذه الأنظمة عن عيون الملايين.
لحقبة قد تزيد عن الستين عاماً، خضعت العديد من الدول العربية لحكم العسكر بقوّة السلاح، وتحت لافتة "النظام الجمهوري" تشبّث العسكر بمواقعهم في السلطة، وأزاحوا المدنيين من المواقع المهمة في الدولة، ولم يسمحوا لهم بالاقتراب مطلقاً من كرسي الحكم، واحتكروا ضمير الأمة ومشروعها المدني، ونصبوا أنفسهم المتحدث الرسمي والحصري باسم المثل العليا والأخلاق الوطنية، وأقاموا نوعاً من الديمقراطية الصورية الموجهة بعنف متخفٍ أحياناً ومتبجح في أحايين كثيرة لتثبيت شرعيتهم كحكام مؤبدين.
تحميل المثقفين وزر خراب البلدان العربية إفك مبين، لأن سبب البلاء هم العسكر الذين تداولوا السلطة فيما بينهم، واستضعفوا المثقفين، وسخّروا خيرة العقول لخدمة أهدافهم القصيرة النظر. في كل مكان تقريباً تكرر السيناريو نفسه: إخراج الكوادر المدنية الممتازة وحملة الشهادات العليا من مواقع التخطيط ودوائر القرار، واستبدالهم بقادة المدفعية أو سائقي الدبابات. لذلك ليس مُفاجئاً أن نجد في اليمن مثلاً أن الغالبية العظمى من الوزراء والمحافظين وشاغلي الوظائف العليا في الدولة هم في الأصل عسكريون، أتوا من الجيش أو الأمن.
هؤلاء الضباط الذين غادروا ثكناتهم تلبية لنداء المناصب، وارتدوا البذل وربطات العنق للتمويه على الرتب الرفيعة التي يحملونها على أكتافهم، هم يتشدقون بقيم ومُثُل وأخلاقيات تتميز بطابع عدائي ومناقض للمواقع المدنية التي يشغلونها، وهم لا يفهمون أن تربيتهم العسكرية لا تنفع في إدارة الدول وازدهارها، ونتيجة لانتقاد سلوكياتهم وتراكم أخطائهم لا يجدون مخرجاً سوى كيل السباب للمثقفين.
ولأنهم من حيث المبدأ لم يتلقوا التعليم المتخصص للمواقع القيادية التي يحتلونها، ولم يحصلوا على القسط المناسب من الثقافة ليكونوا مؤهلين للتدخل في الحياة العامة، فإن الانحطاط في أداء القطاع العام سيأخذ مساراً محتوماً عاماً وراء الآخر، كما أن القطاع الخاص سيعاني من أضرار جسيمة جراء التحايل وضرب روح المنافسة عن طريق نسج علاقات مع الضباط النافذين.
يرفع العسكريون شعار أن لهم الحق في شغل وظائف الدولة "المدنية" العليا، وأن المواطنين مدنيين وعسكريين سواسية في هذا الأمر. من المؤسف أن الدساتير العربية لا تمنعهم من ذلك، كما أن المؤسسة القانونية أضعف من أن تلزمهم بالخروج من مؤسسات الدولة المدنية وتجبرهم على العودة إلى معسكراتهم.
لن نجد في أيّ دستور عربي فقرة تنص على فصل الجيش عن الدولة. لأن العلمانية الحقة الخالية من التشوهات تنمو وتزدهر في المجتمع المدني من جميع الوجوه، لا في المجتمع العسكري الذي يقوده حفنة من العسكر.
يتولى العسكر حين استيلائهم على السلطة ترتيب قواعد جديدة للحكم: الضباط في الصفوف الأولى، والمتعلمون في الخلفية. والمسدس قد تتم معادلته بشهادة دكتوراه أو شهادتين أو ثلاث!
ربما توحي كلمة "استرقاق" المثقفين في حقبة الأنظمة العسكرية بميل للمبالغة، لكننا إذا دققنا النظر في العلاقة بين الحاكم والمثقف، سنجد أن الديكتاتور العربي قد أرغم المثقفين المُلحقين ببلاطه على الخضوع التام لإعوجاجه الفكري، وتقلّب مزاجه السياسي، ونزواته التي لا تراعي الأصول في إدارة شؤون الدولة.
ولأن الكتلة الصلبة من المثقفين رفضت الانضواء تحت جناح القصر ومغرياته الدنيوية، وفضّلت الاحتفاظ بكرامتها وأن تظل حرة في آرائها وأفكارها، فإن السلطة الشمولية لم تعجز أمام هذا التحدي، وقامت بتفصيل مثقفين مزيفين على مقاسها، وأنتجت منهم أعداداً وفيرة، ووزعتهم على مختلف مرافق الدولة. ثم تكتمل الخطة المُغرضة، حين يُعلن هذا المثقف الذي تم تفريخه في مزارع الدواجن التابعة لأجهزة الدولة، أن جميع مظاهر الخلل في الوطن سببها الأوّل والأخير هو المثقف.
إنه يلعن ذاته، يجلد روحه بيده، لكن مهلاً، إنه يخدعنا، ويؤدّي الدور المطلوب منه بمكر، لأنه يعرف في قرارة نفسه أنه ليس سوى شرطي متنكر في إهاب المثقف.