الرئيسية > منوعات > هل تندثر "العصيدة" من المطبخ العربي برحيل الجدات

هل تندثر "العصيدة" من المطبخ العربي برحيل الجدات

هل تندثر "العصيدة" من المطبخ العربي برحيل الجدات

لعلّ من أهمّ ما يصل العرب بعضهم ببعض من الأطعمة هي أكلة العصيدة الجامعة لهم من المحيط إلى الخليج. فإذا كان الكسكسي مغاربيا ومن أصول بربريّة ثابتة، والكبسة خليجيّة بتأثيرات هنديّة إذ ليس من مكوّناتها الأساسيّة الأرز، فعلى الأقلّ في المرق بأنواعه المختلفة، فالعصيدة عربيّة قلبا وقالبا، وهي إحدى الوجبات الأساسيّة في اليمن وفي جنوب السعوديّة وشرقها وفي الإمارات مرورا بالسودان وصولا إلى بلدان المغرب العربي الكبير حتّى وإن اختلفت في مكوّناتها بين هذه البلدان، بل في البلد الواحد منها من منطقة إلى أخرى، سواء وقع إعدادها من دقيق الذرة أو دقيق الدخن أو من دقيق القمح أو الشعير.

يطلق سكاّن الجنوب الشرقي في تونس مثلهم في ذلك مثل الليبيين القاطنين في غرب ليبيا المترامي الأطراف من البحر مرورا بالسهل ووصولا إلى الجبل الغربي على العصيدة تسمية العِيشْ من قبيل إطلاق الجزء على الكلّ، أي إطلاق جزء ممّا يقتاتون عليه ويعيشون به على عيشهم وحياتهم كلّها ولعلّ ذلك يعود إلى حضور هذه الأكلة قديما في نظام غذائهم اليومي كما لا يحضر أيّ طعام آخر بما في ذلك “الكسكسي” فطورا في الصباح وغداء وسحورا في رمضان ولارتباطه بطقوسهم وعاداتهم وأفراحهم في الختان والولادة وولائم الأعراس بقدر ارتباطه بأتراحهم ومآدب المآتم والعزاء.

فالعِيشْ إذن عصيدة كما تتّفق المعاجم العربيّة القديمة على تعريفها بكونها “دقيقا يضاف إليه ثلاثة أمثاله من الماء كيْلا، ولا يزال يُحرّك على نار هادئة حتّى يغلظ قوامه فيُصبّ عليه السمن واللبن المُحلّى بالعسل أو السكّر” كما يمكن أن يُصبّ عليه زيت الزيتون أو حساء بسيط أو مرق مطهيّ بالبيض أو اللحم سواء كان طريّا أو مجفّفا من نوع القدّيد الذي عادة ما يقع ادخاره من أضحية العيد بعد أن يستوي في القصعة على شكل قبّة يُستحسن معالجتها باليد كما يفعل الآباء والأجداد وليس بالملعقة كما يحاول جيل اليوم ممّن لم يعزفوا عنها تماما ومازالوا يقبلون عليها، بعضهم عن مضض وبإكراه من الوالدين.

من أهم ما يصل العرب بعضهم ببعض من الأطعمة هي أكلة العصيدة الجامعة لهم من المحيط إلى الخليج

يفرّق سكّان غرب ليبيا الذين تُعتبر العصيدة لديهم أكلة أساسيّة على خلاف سكّان شرق هذا القطر الذين يعتمدون في غذائهم على الأرزّ بين “العِيشْ” و”البازِينْ” الذي يكون أشدّ منه علكا وغلظة وتجد الأصابع صعوبة في اختراقه، لا سيّما إذا كان آكله لم يعتد على ذلك. وقد انتقلت هذه التسمية الأخيرة إلى مدينة صفاقس التونسية التي يطلق أهلها، على خلاف معظم التونسيين على العصيدة تسمية “بازين” ولعلّ ذلك بتأثير الليبيين الذين استقرّوا فيها مهاجرين في القرون الماضية وأصبحوا بمرور السنين جزءا أصيلا من نسيجها السكّاني.

في تونس عموما ينبغي التفريق بين العصيدة “الحلوة” بالعسل وزيت الزيتون وبالحليب ومشتقاته أو التي تُعدّ من بعض الفواكه الجافّة وتُطهى بمناسبة المولد النبويّ الشريف أو احتفالا بالمواليد الجدد وأمّهاتهم والعصيدة بالحساء والمرق بشتّى أنواعهما.

ثمّة عِيشْ بالحساء، والحساء إعداده بسيط، فهو يُعدّ بحبات من الطماطم والبصل أوالثوم أو “الازول”وهو نبتة تنبت في سهل الجفارة الممتدّ من أقصى جنوب تونس إلى غرب ليبيا في سنوات الخصب والمطر، وهي من فصيلة الثوم والبصل والكراث ولكنّها تنبت تلقائيا ولا تُزرع، ثم تُسكب عليه الخميرة التي كانت تعدّها الأمّهات والجدّات وهي خليط من الدقيق والماء يوضع في ركن المطبخ التقليدي الذي عادة ما يكون خصّا مبنيا بجريد النخل عرضة لأشعّة الشمس حتّى يتخمّر ويصبح حامضا بنكهة خاصة.

وهو يختلف في بساطته عن العِيشْ بالمرق الذي يمكن أن يُطهى باللّحم سواء كان لحم ضأن أو إبل كما يُطهى كذلك في المناطق الساحليّة عموما مثل جرجيس وفي جزيرة جربة بالأخطبوط المسمّى بالقرنيط أو بصدف البحر.

 

العيش بالمرق في أغلب مناطق الغرب الليبي والجنوب التونسي المتاخم لليبيا كان لعهد غير بعيد ولعلّه مازال إلى اليوم أكلة الغداء يوم عيد الفطر المفضّلة كما يمكن أن يُقدّم كذلك في ولئم الأعراس ويسمّى عيشا بالمعقود ومرقه “بالحريقة” لأنّه يعتمد كثيرا على البصل الذي يُقلى في الزيت حتّى يُحرق. ولكن “العيش” ليس في حاجة دائما إلى المرق.

فما يُؤكل منه في الصباح يكون بزيت الزيتون وفي سنوات الخصب “بالرغيدة” وهو نوع من الجبنة التي تُشتقّ من حليب الماعز أو الأغنام ومن حليب الناقة خاصة في سنوات الخصب. ويُعتبر “العيش” بزيت الزيتون الذي تُحفر له حفرة وسط العصيدة ذاتها تُسمّى بـ”النقرة” أي تُنقر في وسطه يُسكب فيها وبجانبها حفنة من “الذرورة” أي نسبة للذرة، وإنْ كانت من دقيق الشعير فهي الطعام المفضّل للسحور لأنّه يساعد الصائم لدسامته على مقاومة جوع الصيام.

مازال بعض النسوة على قيد الحياة يعددن على أصابع اليدين في كلّ قرية ومدينة مَنْ بإمكانهنّ إعداد كلّ هذه الأنواع ولكن برحيلهنّ سيرحل “العيش” بكلّ دلالاته المادية والرمزيّة إلى الأبد. قال الكاتب المالي الشهير “أمادو هامبات باه” في اليونسكو بباريس سنة 1962 في كلمة مأثورة “مع كلّ عجوز في أفريقيا تموت، مكتبة تحترق” ويمكن أن ننسج على منواله فنقول “مع كلّ امرأة عجوز تموت في ربوعنا مطبخ يحترق!”.

 

 أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)