قالوا عنها مدينة الحضارة والجمال، وقالوا مدينة المتناقضات؛ ففيها تجتمع الكثير من الأضداد لا لتتنافر؛ ولكن لترسم لوحة فريدة من التعايش الإنساني، وفي رمضان تنعكس أجواء الشهر الكريم وما يعزّزه من معاني الرحمة والأخوة والتكافل على تفاصيل حياة سكان المدينة؛ أتراكها وأجانبها، صائمها ومفطرها، وحتى السائح المارّ بها قدراً.
وإن كان بعض أوجه تناقض مدينة إسطنبول، ذات الخمسة عشر مليون نسمة، أنها تضم أطيافاً اجتماعية متباينة من أرفع طبقات الأغنياء وأصحاب الممتلكات، حتى أكثر الفقراء بؤساً، فإن مزيجاً من أطياف اجتماعية مختلفة ومتباينة تجتمع في شهر رمضان على نفس موائد الافطار، التي تنظمها البلدية في الساحات العامة على مدار الشهر الكريم.
تلاحم إنساني
فعلى موائد الإفطار التي تنظّمها بلديات إسطنبول، يتحلّق الأتراك والأجانب المقيمون وبعض السياح مسلمين وغير مسلمين، ويتشاركون الدعاء قبيل الأذان، ومن ثم تناول وجبة الإفطار في الساحات العامة وفي الخيم التي تنصبها البلديات خصيصاً لهذه الفعالية على مدار 30 يوماً.
وقد عمدت البلديات إلى الإعلان عبر الصحف ووسائل الإعلام الأخرى عن أكثر من 80 موقعاً تقام فيه موائد الإفطار اليومية، التي تقدم فيها البلديات بتمويل ذاتي، وآخر من قبل رجال أعمال وفاعلي خير، وجبات الطعام المعقمة والمغلفة مع التمر والماء قبيل دقائق من رفع أذان المغرب.
وأعلنت بلدية "أسكودار" وهي واحدة من 39 بلدية تابعة لبلدية إسطنبول الكبرى، أنها ستقدّم كل يوم 30 ألف وجبة إفطار على مدار شهر رمضان في 13 موقعاً مختلفاً، بما مجموعه مليون وجبة خلال الشهر الكريم.
اللافت في هذه الإفطارات الرمضانية، أنها مفتوحة أمام الجميع، وليست مخصصة للمحتاجين فقط، إنما يلتحم فيها المحتاج مع الكثير من الناس الذين يحضرونها رغبة في معايشة الأجواء الرمضانية، ومشاركة أجر الصيام مع الآخرين، وتقوية أواصر التواصل الاجتماعي مع الجيران وسكان المدينة، وحتى من السياح الذين يشدّهم الفضول حول معاني الصيام.
تسامح
وعلى الرغم من عدم وجود إحصائية دقيقة حول أعداد الصائمين من الأتراك في الشهر الفضيل، إلا أن استبيانات دائرة الشؤون الدينية وتقديرات المراقبين تشير إلى أن النسبة تترواح حول 65? من سكان مدينة إسطنبول.
ومع أن الصائمين يشكلون أغلبية في دولة تقودها حكومة وبلديات تتبع لحزب محافظ، إلا أن المطاعم والمقاهي تواصل استقبال زبائنها في نهار رمضان بصورة اعتيادية، وهو المشهد الذي يعتبر مألوفاً ومتقبّلاً من قبل الأتراك سواء أكانوا صائمين أو غير صائمين، فكل فريق من هؤلاء يحترم اختيار الآخر ولا يحاول تغييره أو التأثير عليه.
لكنّ آخرين يرون في سياسات حزب العدالة والتنمية الذي حكم تركيا 13 عاماً، محاولات ناعمة للتأثير في هوية الشعب التركي وتحفيزه نحو الالتزام بشعيرة الصيام وباقي المظاهر الرمضانية، من خلال الإنفاق السخي والترتيب لهذه الموائد الرمضانية التي لم تكن تعرفها البلاد من قبل سنوات حكمه، إلى جانب إحياء طقس المدافع الرمضانية، واحتفالات الاستعراض المولوي (من ألوان الرقص الصوفي) والتي تتلى فيها آيات القرآن الكريم والمدائح الدينية.
وفي السياق ذاته؛ كانت بلدية "أيوب" في إسطنبول قد نظمت مطلع شهر رمضان، إفطاراً خاصاً للأطفال دون العاشرة من العمر، وعقدته بعد صلاة الظهر مراعاة لصغر سنّهم، وتحبيباً لهم بشعيرة الصيام.
إحسان وتكافل
ولا تقتصر مظاهر الإفطارات الجماعية على التجمعات الرسمية التي ترعاها البلديات، إذ لا يكاد يخلو مسجد في إسطنبول من مائدة رمضانية توزّع فيها التمور ووجبات الإفطار على المصلّين والمارّين والمحتاجين. كما تُعقد بين الحين والآخر، مبادرات اجتماعية بين أبناء الأحياء الشعبية، يتشارك فيها الجيران تحضير الأطعمة الرمضانية، وترتيب موائد الإفطار في الأزقة، تقوية لأواصر الأخوة والجوار.
ومن المشاهد التي تطالع المارّ في إسطنبول خلال الشهر الفضيل، قيام الأهالي وبعض الشبان المتطوعين بالبحث عن المحتاجين والمشردين والمتسولين، وإيصال وجبات الإفطار والسحور إليهم، حتى لا يكاد يبقى جائع واحد في إسطنبول الكبيرة خلال شهر رمضان.
* الخليج أونلاين