العربية السعيدة أو اليمن السعيد.. قد يبدو هذا الاسم الشهير غير متطابق مع حالة اليمن، اليوم، في المعنى والمبنى، حيث يتراجع تنموياً وإنتاجياً باضطراد، وسط اضطرابات سياسية واجتماعية مزمنة.
كما أنّ جغرافية البلاد الجبلية الخشنة في الشمال، والصحراوية القاحلة في معظم مناطقها، والمساحات الخضراء المحدودة لا تنسجم مع التسمية.
غير أنّ علماء الآثار والتاريخ يقولون، إنّ أوّل من أطلق ذلك الاسم على اليمن هم قدماء الرومان، لكن لم يُثبت لذلك تاريخ.
أسماء عديدة
تعدّدت أسماء اليمن في كتب التاريخ، فهي عند قدماء الجغرافيين "العربية السعيدة"، وأسماها العهد القديم "تيمناً"، أي الجنوب، وقيل إن اسم "اليمن" يرجع الى أحد أقدم أجدادهم، أيمن بن يعرب بن قحطان. وفي الموروث العربي اشتق اسم بلاد اليمن من "اليُمن" وهو الخير، وتتفق هذه مع تسمية قدماء الجغرافيين "العربية السعيدة".
تباينت اليمن السعيدة كثيراً عن جاراتها الشمالية، التي كانت تسودها البيداء القاحلة، وسط شبه الجزيرة العربية وشمالها، الذي كان الرومان محتلين لأجزاء واسعة منها. تربَّعت اليمن آنذاك على كامل الزاوية الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، وامتدت ربوعها لتشمل، حالياً، اليمن وعُمان، لتصل موانئ مضيق هرمز شرقاً، والبحر العربي جنوباً، والبحر الأحمر غرباً، وشملت أراضيَّ شاسعة من الحجاز حتى وصلت تخوم مكّة شمالاً. إلا أن البلاد لم تكن موحّدة تحت حكم ملك واحد، وكان كثير من الممالك تظهر وتختفي أو تتوسّع ممالك أخرى مكانها. وقيل إنه لم يوحدها، قديماً، سوى الملك "كرب آل وتر"، أوّل من حمل لقب "ملك سبأ"، الذي حكم حوالي سنة 450 ق. م.
سرّ المناخ
ولقد سميت البلاد باليمن السعيد بعد أن سادها المناخ المعتدل والمتنوع، وفنون الزراعة وهندسة السدود والمنشآت المائية وبراعة العمارة، لتبقى جميعها سر تلك التسمية والشغل الشاغل لأهل ممالكها الذين عُرفوا بقوة التدين الروحي وشغفهم بالحياة وتملُّك أسباب القوة والتطوير. وقد حظيت بقدر وفير من الأمطار الموسمية جعلت البلاد غابات طبيعية تنتج الكثير من العطور والتوابل، التي لم يكن للعالم القديم غنى عنها، وعملت على زيادة الاستقرار الاقتصادي فيها.
وتقول كتب التاريخ، إن الإمبراطور أوغستوس (27 ق.م. - 14 ب.م) أرسل بعثة رومانية، تحت قيادة قائده غايوس غالوس لاستكشاف اليمن السعيد، فعادت البعثة إليه بنتائج كارثية بسبب تعرضها لخداع مرافقها اليمني. فقد كان واعياً بهدفهم الاستعماري، فجعل البعثة تسلك أشدّ طرق اليمن وعورة وجدباً وخطورة، وأوصلها جنوب البلاد منهكة من المرض والضعف والعطش، فعادت إلى بلادها من دون مكاسب سياسية أو تجارية.
كانت شعوب اليمن من أقوى الشعوب، لذا لم تجرؤ الدول الاستعمارية القديمة على احتلال أجزاء منها. فقد ذكر القرآن الكريم والعهد القديم قصة ملكتهم "بلقيس"، وهي تشاور قادتها في أمر رسالة أقوى ملوك الأرض، "الملك سليمان"، الذي هدّد بغزو اليمن، إن لم تدن هي وقومها بدينه، ليطمأنوها بأنهم ذوو "بأس شديد"، لكنها فضلت استخدام الحكمة والحيلة لإيقاف عدوانه.
في عام 2012، صرّح علماء آثار غربيون أنهم اكتشفوا آثاراً سبئية كبيرة الحجم في إثيوبيا، تقول، إن حكم الملكة بلقيس كان مسيطراً على تلك البلاد في القرن الرابع ق.م.
كان اليمنيون محكومين بأنظمة حكم متطورة، وكان دور المرأة كبيراً في الحكم، وكانت أدوارها في الحياة بارزة تحكيها المنحوتات الصخرية الكتابية بخط تلك الحضارة (المُسنَد) والتماثيل الكثيرة. لذا لم يكن عيباً أن تتزعّمهم بلقيس، التي حكمت بين قومها بمبدأ "الشورى" وسادت أقوى حضارات اليمن.
أنتجت أرض اليمن المُر واللبان والبخور، وأصبح اليمنيون التجار الحصريين لتلك السلع الروحية المطلوبة للمعابد الوثنية المتصلة بقصور الحكم، والتي سادت كثيراً من حضارات الزمن الغابر. ووصلت أهمية هذه السلع إلى درجة أن التجار اليمنيين كانوا يقايضونها بالذهب والفضة. وقد وصف المؤرخ اليوناني هيرودوتس "السعيدة": "تزفر ريحاً عطراً لأنها البلاد الوحيدة التي تنتج البخور والمر".
كان اليمن السعيد بساتين خصيبة تتخللها أنهار جارية، وكانت بيوتها قصوراً فارهة ويعيش أهلها في رخاء أسطوري في العيش. وكانت هي أرض "إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد" (سورة الفجر). حتى أنّ القرآن الكريم خصّص لهم سورة كاملة "سبأ" هو اسم مملكتهم. وذكرت السورة قصّة بذخهم الشديد لدرجة أنه وبسبب إنعام الله عليهم بكثافة الأشجار والثمار والأمن، كان يمشي الرجل من صنعاء الى حضرموت (700 كيلو متر) ولم يكن يشعر بطول الطريق أو مشاقها، ولم يكن يحمل معه الزاد أو يشعر بالملل أو التعب أو الأخطار. وقد ملّ الناس من هذه الأنعم ولم يشكروه عليها، حتى أنزل عليهم عقوبته، ليحيل غاباتهم إلى أراضٍ جافة ويجتثّ أشجارهم.. وأبقى لهم "وشيء من سدرٍ قليل". والسدر هي شجرة الطلح الشوكية غير مثمرة، وهي غذاء نحل العسل الذي لا تزال اليمن تمتاز بإنتاج أجود أنواع العسل في العالم حتى اليوم. ثم أتى فأر، بحسب الأساطير، لينخر في أقدم سدّ في التاريخ هناك، سدّ مأرب العظيم، لينقضه تماماً ويخرج منه سيل العرم الذي أغرق أمصاراً كثيرة، ويكون سبباً في اندثار مجدهم وهجرة معظم قبائل أهل اليمن السعيد الى وسط وشمال الجزيرة العربية بشكل رئيس.