محمد جميح
? الرياض اليوم تتصدر عناوين نشرات الأخبار ومانشيتات الصحافة، بعد أن كانت تدفع بغيرها لتصدر الشاشات والصفحات الأولى.
لم تعد الرياض تدير خيوط اللعبة من كواليس هذا المسرح، غيرت الرياض سياستها، ظهرت للمسرح بشكل واضح، قالت للجمهور إنها ستتصدر من الآن وصاعداً المسرح كلاعب رئيسي، الجلوس في الكواليس كان يناسب مرحلة انقضت في ما يبدو. بدأت بوادر التغير على السياسة السعودية الخارجية – بشكل خاص – بعد أن ضرب الربيع العربي بلونه الأحمر عدداً من البلدان العربية مع نهاية 2010، واستمرت مشاهد الرياض في التغير على مدى السنوات التي أعقبت النار التي أضرمها البوعزيزي في جسد الزمن العربي المنصرم. تغيرت الرياض في القاهرة، في طرابلس، في دمشق، والدوحة، وتغيرت في صنعاء. عوامل عدة ساعدت في إحداث التغير في سياسة الرياض الخارجية، غير موجة الربيع، منها بالطبع التقارب الأمريكي الإيراني، وإحساس الرياض بأنه إلى حد ما يجيء على حسابها، وعلى حساب مصالح الدول العربية بشكل عام. أحست طهران أن بإمكانها تكييف المنطقة العربية برمتها، حسب متطلبات طموحها الإقليمي الواسع، مدت يدها إلى سوريا، وضعت اليد على العراق، لبنان منذ سنين استقر في جيبها، أو هكذا خيل لحائك السجاد. واصلت طهران سياسة العبث، امتدت يدها إلى صنعاء، قالت طهران بثقة يبدو عليها التطبع أكثر من الطبع، إن الطريق إلى القدس تمر عبر صنعاء، على الرغم من أن القدس في شمال الجزيرة وصنعاء في جنوبها.
جاء الكلام على هوى الحوثيين، هتفوا من صنعاء: الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، رددوا الشعار الإيراني، لعنوا اليهود، وقتلوا اليمنيين. سقطت صنعاء في أيديهم، ابتسمت طهران، بارتياح، قالت: صنعاء رابع عاصمة تقع في يدنا. أحست الرياض بأن الرسالة مرسلة إليها تحديداً، حائك السجاد يرسل حروفاً مبهمة للرياض التي وجدت أن عليها أن تضع النقاط على الحروف لتعجمها. الرياض استلمت الرسالة المشفرة، فكت شيفرتها، ووضعت فيما يبدو النقاط على الحروف المبهمة.
في ليلة مظلمة من أواخر مارس، أحكم الحوثيون سيطرتهم على قصر الرئاسة اليمنية في عدن، التي هرب إليها الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، هرب هادي من عدن مرة أخرى، ذهب إلى الفيافي الفاصلة بين عمان واليمن، وصل عمان، ثم الرياض، استغرقت الرحلة ليالي وأياماً، وانتهت في الرياض. الثانية عشرة منتصف الليل، بتوقيت صنعاء، أشعل الانقلابيون في اليمن سماء المدن التي سيطروا عليها بالأعيرة النارية، ابتهاجاً بـ»النصر الإلهي»، أعلنوا إحكام قبضتهم على البلاد.
شعر اليمنيون بغصة امتدت من الثانية عشرة من تلك الليلة إلى الثانية صباحاً، غصة حامضة، غصة من تخيل نفسه ملفوفاً بعمامة سوداء لعلي خامنئي، وهو أول من وضع العمامة العربية على رأسه. ساعتان مرتا على معظم اليمنيين كسحابة خريف مثقلة، ومرتا على الانقلابيين كحلم روته شهرزاد في ليلة مقمرة لشهريار، وهما يرقدان في سرير صنعاء.
انقضت الساعتان الثقيلتان، وحضرت الرياض فجأة في صنعاء، وفي الثانية صبحاً، تبخر حلم الانقلابيين، وأدرك شهرزاد الصباح.
لم يكن في حسبان طهران أن الرياض تجيد قراءة الرسائل إلى هذا الحد، لم يكن يونسي الذي قال إن العراق «عاصمة امبراطوريتنا»، ولا محمد رضا عضو البرلمان في طهران الذي وضع يده على العاصمة الرابعة صنعاء، ولا قادة الحرس الثوري الإيراني الذين قالوا إن حدود إيران أصبحت تمتد من مضيق باب المندب إلى مياه المتوسط، لم يكن في حسبان هؤلاء أن «ربيع الرياض» سيضرب في اللحظة ذاتها التي أطلقت فيها الأعيرة النارية ابتهاجاً بسقوط «قصر معاشيق» الرئاسي في عدن في يد المليشيات الحوثية، وقوات الرئيس اليمني السابق.
خرج سعود الفيصل ليقول بوضوح: «لا نريد الحرب، ولكنها إذا فرضت علينا ، فنحن لها»، هذه لهجة جديدة سمعت من الفيصل، وهي لم تأت من فراغ، ولن تذهب – في تصوري – إلى فراغ. في اليوم التالي لعاصفة الحزم على مواقع الانقلابيين وصالح، توقع موالوهم في اليمن أن يصدر موقف قوي من طهران دعماً لوكلائها الجدد، لكن محمد جواد ظريف، خرج ليقول: لا ننوي التدخل عسكرياً.
الرياض تتغير، وتفرش السجاد الأحمر لرجب طيب أردوغان كذلك، وخط الدوحة الرياض أصبح مباشراً، والقاهرة جاءت إلى الرياض، كما حضرت إسلام أباد، وباريس، وأبوظبي، وغيرها من العواصم، غير أن المميز كان حضور صنعاء أخيراً إلى الرياض، حضور عدن التي انتفضت ضد صالح، وهي لا تملك غير قمصان شهدائها. وفي نيويورك قالت الرياض كلمتها، سمع الخمسة الكبار الكلمة، حاول «الدب الروسي» أن يلعب، لكنه كان أشبه بلاعب يلعب في الوقت الضائع، أو البديل عن الضائع، إلى أن استقر هدف الرياض في شباك المرمى الدولي، هدف كبير، خرج مشرفاً لها وللعرب، في شكل القرار الدولي رقم 2216.
الأقوياء لا يحترمون إلا منطق القوة. عندما تقدمت المجموعة العربية بمشروع القرار الدولي 2216، مدعوماً بعمليات «عاصفة الحزم» ضد معسكر الانقلابيين في اليمن، ضد المعسكر الإيراني في البلاد، لم يكن أمام العالم إلا ان يصوت لصالح مشروع القرار المدعوم بالقوة. يرى العرب أن واشنطن تدعم إسرائيل لوجود اللوبي الإسرائيلي هناك، وهذا صحيح، غير أن ما هو أكثر صحة من ذلك، أن واشنطن رأت تل أبيب قوية فدعمتها، لضمان مصالح الولايات المتحدة. هذا يفسر حقيقة التحول الأمريكي تجاه طهران، طهران برزت قوة، فرضت على واشنطن احترامها. واليوم تفرض الرياض نفسها قوة عسكرية واقتصادية ودبلوماسية عربية ودولية، ولذا صوت لمشروع قرارها الكبار في مجلس الأمن.
الحقيقة الذهبية هنا هي: لكي تحصل على احترام الكبار، عليك أن تكون قوياً. هذا هو منطق الجغرافيا، التي لم تكن في الأغلب «يوتوبيا إنسانية»، ومنطق التاريخ الذي كان أقرب إلى ملحة «الإلياذة»، منه إلى سيمفونيات بيتهوفن.
بدأت الرياض الخطوة الأولى وواجبها القومي يحتم الاستمرار على هدى وبصيرة، لكي يعود الربيع إلى الرياض إلى المنطقة العربية، التي أحرقها «الربيع العربي»، بالنيران المنسكبة من جسد البوعزيزي.
/نقلا عن القدس العربي/