بشرى العامري
تطل قريتي مسقط رأسي على مديرية السدة في وادي بنا لواء محافظة اب الخضراء , تلك الارض التي عليها بدأت اول خطواتي في التعرف على هذه الحياة .....
في قريتي والقرى المحيطة بها لا يقطن سوى الفلاحين البسطاء الذين لم يتأدلجوا حتى سنوات قريبة تحت اي عباءة حزبية او سياسية او طائفية , كانوا يقضون نهاراتهم بين الحقول يغردون بزواملهم الشجية وتجمع مساءاتهم سهرات جماعية او اسرية مختلطة نوعاً ما حيث تقف النساء على مقربة من مكان الرجال يرقبن نكاتهم وقصصهم ونقاشاتهم وعادة كن يشاركن بالرد او بالرأي او بالأهازيج المبدعة , ولم تكن مشاركة المرأة عيب او عار حسب العرف الاجتماعي حينها فهي شريك اساسي في الحقل وفي السوق وفي كل مناحي الحياة, والكل يعرف اسماء نساء اهل قريته ويعرف ملامحهن ويفرق بينهن ان شاهد احداهن في اي مكان ويعرف ان هذه المرأة او تلك دخيلة من قرية اخرى ايضاً , ولم يكن النساء يؤذين حين يعرفن او حتى لم يعرفن لان اذية او مضايقة احداهن عيب اجتماعي خطير لا يقبله احد على نفسه مهما كان ويتمنى الموت على ان يقال عنه انه اذى فلانة , وكانت النساء يعشن اكثر حرية ويتمتعن بشخصيات قوية رغم الكثير من الاعباء المعيشية التي كن يتحملنها بكل رضا وتسامح ..
وظل اهل منطقتي حينها يحتفظون ببراءتهم تلك وطهرهم وعفويتهم رغم الحروب التي فرقت الكثير من الابناء عن ابائهم من حروب الجمهورية والجبهة والمقاومة وغيرها , وفي سنوات النضال الوطنية الطويلة منذ ما قبل قيام الجمهورية وحتى اليوم قدمت منطقتي الكثير من خيرة شبابها شهداء من اجل قيام الجمهورية ونبذ الملكية وكانوا في مقدمة صفوف الابطال وعلى رأسهم الشهيد علي عبد المغني والتام وصالح المولد وشهيد الديمقراطية الذي لم ولن يكون الاخير في قافلة المناضلين والوطنيين الا وهو الشهيد المناضل جار الله عمر .
وقصفت اغلب قرى منطقتي بالمدفعية والدبابة في اكثر من مواجهة وجبهة وتم اختطاف واخفاء الكثير من ابطالها , وقتل العديد من شجعانها وتشردت وهجرت المئات من الاسر من بينها اسرتي حينها, ودمرت الكثير من المنازل والاثار لكنها بالرغم من كل ذلك سرعان ما كانت تنفض عنها ثوب الحزن وتعود لسيرتها الاولى وتضع تلك الالام في سلال الذكريات ليرويها الاباء والاجداد قصصاً وحكايات للأبناء والاحفاد .
كما شارك الكثير من ابناء منطقتي في بناء هذا الوطن وخاضوا غمار التعليم وترقوا اعلى سلالمه ونبغ شعرائها وكتابها الذين لا يمكن لاحد اغفال اسمائهم وعلى رأسهم شاعر اليمن الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح الاسم الذي يلمع كنجم ساطع يخفي معه كل النجوم الاخرى اذا ما ذكر الشعر والادب , كما برزت عدد من الاسماء السياسية والوطنية كالقاضي الحجري والارياني ومحمد اسماعيل وعبد اللطيف ضيف الله وغيرها من الشخصيات الوطنية التي تركت بصمات واضحة في جبين هذا الوطن .
وتنقل الكثير من الاباء حينها في اقطار الارض واصبحوا من اهم الرافدين لاقتصاد الوطن حتى اليوم, بتحويلاتهم الخارجية وتجاراتهم المختلفة ولكنهم لم ينسوا قط تلك الارض المباركة التي انجبتهم وعلى ارضها كانت بداية انطلاقتهم فغمروها بالكثير من الاموال والابنية الجميلة وبعض المشاريع في وقت كانت العديد من القرى وخصوصاً التي على قمم الجبال لم تطأها قدم اي مسئول حكومي او مشروع اساسي للماء والكهرباء والمدارس والمساجد وخلافه ..
ففي منطقتي لاتزال عديد من القرى خارج خارطة القرن الواحد والعشرين ولازالت الدواب هي الوسيلة الوحيدة للتنقل, ولازال الناس يحملون قرب الماء على ظهورهم من اماكن بعيدة حتى المنزل, ولا يعرفون بعد اختراعاً اسمه المصباح الكهربائي . وكأن الحكومات السابقة واللاحقة تريد معاقبتهم عمداً عن كل التضحيات والعطاءات التي يبذلونها من اجل وطن لا شخصيات محسوبة على تلك الانظمة البائسة فقط.
ولكن رغم هذا الاقصاء المتعمد والاهمال من الجانب الحكومي وبساطة الحياة وشقاؤها في آن لم تغير من صفاء وطيبة وعفوية الناس هناك ..
تجدهم دوماً مبتسمين في وجه كل قادم مرحبين مضيافين سعيدين بحياتهم متأقلمين وراضين بما كتبه لهم الله, لا تخلو احاديثهم واهازيجهم قط من هذه القناعة والسعادة الحقيقية .
لكن دناءة الاحزاب وقذارة السياسة التي طغت لغتها مؤخرا ولوثت كل جميل في وطني لم تسمح لهذه الطهارة وتلك الارض البكر ان تعيش براءتها وابت الا ان تعكر صفوها بلغة كريهة وتفرقة حزبية مقيتة وبدأت بالدفع لبعض مشائخ الفيد وبعض الشخصيات ليتم ادلجتهم تحت عباءة الحزبية المقيتة .
وقبل اعوام وفي احدى زيارتي لقريتي وطوال الطريق الذي مررت به على كثير من القرى صدمني منظر الشعارات الحزبية المتناثرة هنا وهناك "خصوصاً لحزبيّ المؤتمر والتجمع اليمني للإصلاح" تملاء جدران المنازل المتهالكة والطرق الغير معبدة والمدارس المتناثرة بعيدا وفي كل مكان, ولم يبق سوى ظهور الحيوانات ليكتبوا عليها شعاراتهم الجوفاء والكل اصبح ضد الكل والكل يُخون الكل وبدأت لغة الصراعات الحزبية والسياسية تصبغ احاديثهم ومجالسهم وتعتلي كل قضاياهم وتخلق الكثير من الشقاق بينهم .
ووصل الامر الى ان تقوم بعض الجهات والشخصيات بتمويل بعض الشباب لتكوين ما يسمى بالقاعدة تتحرك فقط حينما تريد لها تلك الجهات ان تتحرك مستغلة حاجتهم وفقرهم وقلة حيلتهم خصوصاً وان اغلبهم اما فاشلين دراسياً او لم تتح الفرصة لهم للدراسة اصلا او انهم لم يحصلوا على وظيفة مناسبة, ونبذهم الجميع واعتلوا رؤوس الجبال وتنقلوا هنا وهناك دون حاضن حقيقي لهم وفي ظل اهمال كل الجهات المعنية هناك.
وفي هذه الايام وفي ظل الصراعات السياسية البغيضة التي تدثرت عمداً بغطاء الدين فوجئت منطقتي التي تحاول جاهدة استرجاع دعتها وصفوها دون جدوى ان تنبذ عنها فكرة الصراع المذهبي والطائفي الدخيل ايضاً عليها, خصوصاً بعد ان اكتوت بنار الصراع السياسي واحتشد وجهاء القبائل فيها والعاقلين لرفض دخول منطقتنا في هكذا صراع ليفاجئوا بفصيل من الحوثيين يشتبكون مع فصيل القاعدة المزعومة ويفتعلون مشكلة ما تذهب ضحيتها دماء من الطرفين ويتم رفع اعلام للقاعدة لتتسنى الحجة للحوثيين باقتحام المنطقة تحت مظلة مكافحة القاعدة ..
منطقتي يا سكانها الطيبين .. حتى انتم يبدوا انكم لن تكونوا بمنأى عن جراح هذا الوطن وان نصيبكم دوماً من كل تلك النكبات حاضر وبقوة وقدر لكم ان تبذلوا المزيد من الدماء ..
منطقتي وقريتي الإبية الأبية كنت ولازلت اعتقد انك ملاذي الامن وقت الشدائد واني اقف مسنودة على رجالك الشجعان الطيبين ..
فليحرسك الرحمن وليخفف وطأة الجرح الذي سينزف على ترابك الطاهر والذي سيعيد حتما لأرضك جمالها واخضرارها وسينمو عوضاً عن الشوك الارعن حقولا من البر والشعير والسفرجل والتوت والتين والفرسك والبرقوق وازهار اللوز والكستناء وزهوراً مختلفة الوانها تؤكد ان طهرك ونقاءك باق رغما عن انف الحاقدين .