محمد كريشان
هنا «صنعاء المحتلة»..هنا العاصمة العربية التي دخلتها مليشيات طائفية تصرخ بشعارات ثورية سرعان ما نزعت جلبابها لترتدي جلبابا أكبر منها بكثير هو جلباب الدولة.
«ازدانت» البلاد العربية بعاصمة محتلة جديدة على غرار قول الشاعر الراحل محمود درويش بأن فلسطين ازدانت بمزار جديد بضريح الزعيم الرمز ياسر عرفات. لم نكن نعرف في هذا العصر سوى «القدس المحتلة» منذ 1967 ثم «بيروت المحتلة» في أعقاب اجتياحها من الجيش الإسرائيلي صيف 1982 ثم «بغداد المحتلة» عقب دخولها من القوات الأمريكية والمتحالفين معها في نيسان/أبريل 2003. وهاهي الآن «صنعاء المحتلة» لكنها العاصمة العربية الأولى التي يحتلها جزء من أبناء الوطن ظنوا أنهم الوطن كله.
الحوثيون أقلية مذهبية لا تتجاوز الــ 10? من اليمنيين، من حقهم ألا يظلموا أو يضطهدوا، من حقهم ألا يقصوا أو يهمشوا، من حقهم المساهمة في الدولة ومؤسساتها… لكن ليس من حقهم الإعتداء على بقية مكونات المجتمع بالقوة، ليس من حقهم التغول على الآخرين وقهرهم، ليس من حقهم التوهم أو الزعم بأنهم هم وحدهم الثورة والدولة في آن. لقد مروا من ادعاء المظلومية إلى ظلم الآخرين، ومن عقدة الإقصاء إلى عقدة كبرياء، و بدا عجيبا غريبا أن ترى عربات للجيش والشرطة وقد رفعت عليها ليس أعلام الدولة، ولو من باب التورية، ولكن شعارات الحوثيين وصور زعيمهم عبد الملك الحوثي. بالمناسبة، هذه الشعارات تبدو دعائية ولا معنى لها أبدا بالنسبة ليمني لا يعنيه كثيرا الانتماء المتعسف والمنافق لــ «معسكر الممانعة»، كما أن شعارا مثل «الموت لليهود» صارخ في معاداته للسامية خاصة وأن العرب لم يعلنوا يوما معاداتهم لليهود كيهود (على فكرة لم يتوقف أحد في الولايات المتحدة أو أوروبا أمام هذا الشعار أو شعار الموت لإسرائيل، رغم انزعاجهم الشديد عادة من كل ما له صلة بذلك!!). أما عبد الملك الحوثي فيبدو فرحا مزهوا برفع سبابته محذرا وبنقل كلماته على الهواء في محطات فضائية عديدة.
لم يعد مهما الآن معرفة السر في التمدد التدريجي المريب لهذه المليشيات من معقلها في مدينة صعدة إلى مدن أخرى وصولا إلى العاصمة، ولا من تواطأ معها غير الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح الذي يريد أن يثأر من كل من أسقطه من كرسي جلس عليه 33 عاما. المهم الآن معرفة كيفية التعامل المثلى مع هذه الجماعة التي لا يقف معها في الداخل سوى حزب صالح المنتقم من ثوار الأمس، وفي الخارج إيران التي تقف وحدها مقتنعة أو متوهمة أن ما جرى في البلاد هو ثورة وأن هذه الثورة أثمرت مسك جماعتها لزمام الحكم.
لقد عرى هروب الرئيس عبد ربه منصور هادي من إقامته الجبرية في صنعاء كل الأطراف المتآمرة على اليمن :
عرى الحوثيين لأنه أظهرهم في صورتهم الحقيقية، طلاب سلطة بالقوة والانقلاب.
عرى علي عبد الله صالح وجماعته الذين وصلت بهم مهادنة الانقلابيين حد اعتبار نقل الحوار الوطني خارج العاصمة سيقصي البعض منه لكنهم لم يروا في حضورالجميع في صنعاء تحت ذل التهديد أمرا معيبا.
عرى إيران وطموحها الجارف للتدخل في اليمن وجعله تحت إبطها كما فعلت مع لبنان والعراق جاعلة من «أنصار الله» و«حزب الله» وكل الأحزاب الطائفية في العراق مندوبيها في هذه الدول.
وإذا كانت تعرية الحوثيين وصالح ليستا بالحدث الأهم لأنهما كانا كذلك حتى قبل انتقال هادي إلى عدن، فإن إيران استشرست في إظهار نواياها الحقيقية بمجرد هذا الانتقال. يكفي على سبيل المثال قراءة ما كتبته صحيفة «كاهان» قبل يومين من أن «انتصار الثوار في اليمن سلب مرة أخرى النوم من عيون العرب الرجعيين وأعداء محور المقاومة في المنطقة، والسبب هو أن هؤلاء الثوار يريدون تحقيق حكم الشعب، وهذا ما يعارضه الملوك وعملاء أميركا في المنطقة الذين بدأوا منذ اليوم الأول للثورة في اليمن بالتآمر عليها، ودفعوا أولا الرئيس عبدربه منصور هادي ورئيس الوزراء لتقديم الاستقالة بهدف تشديد الضغوط على جماعة انصار الله، ثم أغلقوا سفاراتهم في صنعاء، وقاموا بتهريب الرئيس المستقيل إلى عدن، في مسعى لتحويلها إلى دولة صغيرة تحت مسمى العاصمة الثانية لليمن، بدعم من الدول العربية والغربية التي نقلت سفاراتها إلى هناك».
وقد قامت إيران سريعا بمحاولة استغلال الظرف الحالي وذلك بتنظيم 28 رحلة أسبوعيا من وإلى طهران وصفها البعض بأنها عبارة عن «جسر جوي» لنقل كل ما يمكن أن يشد عود الحوثيين، فضلا عن إعلان جماعة الحوثي عن توجه وفد رفيع من الجماعة يقوده صالح صماد رئيس المجلس السياسي لــ «أنصار الله» باسم «الحكومة اليمنية»(!!) لبحث التعاون الاقتصادي والسياسي مع إيران.
لقد اتضحت الصورة تماما الآن في اليمن بحيث لم يبق سوى سؤال واحد: ماذا ستفعل، عمليا وليس عبر البيانات، كل من دول الجوار والأمم المتحدة والدول الكبرى أمام كل ذلك.
القبول به مكسب كبير لإيران أما إجهاضه فيعنى أن على إيران أن تهذب شهيتها قليلا. لننتظر.
? كاتب من تونس
/نقلا عن القدس العربي/