بشرى المقطري
لم يكد يرتفع منسوب تفاؤل يمنيين كثيرين، على إثر هروب الرئيس عبد ربه منصور هادي من موطن إقامته الجبرية إلى مدينة عدن، اذ أدى إلى تخلخل المشهد السياسي اليمني المنغلق منذ سبتمبر/أيلول الماضي على السلطة الواحدية لجماعة الحوثي في مدن يمنية، وخصوصاً صنعاء، المدينة الأكثر إنهاكاً وتضرراً من عبث المليشيات المسلحة، حتى لاحت من جديد ملامح كوابيس واقعية لوضع سياسي مختل، لطالما حاول اليمنيون استبعادها من مخيلتهم، متمسكين بالأمنيات؛ لكن أمنيات الشعوب المقهورة لا تتحقق، على الأقل، في ضوء ما نراه ونسمعه ونعيشه، إذ لا يحفل العالم بأمنيات شعوب عاجزةٍ عن تخليق المعجزات من ذاتها.
ستبدأ الكوابيس اليمنية، إذن، على مقدمات لخريطة سياسية وجغرافية جديدة لليمن، لم تتشكل من تراكم تضحيات ملايين اليمنيين في كل ثوراتهم، في العقود الأخيرة، ولا أحلامهم المشروعة بحياة عادلة للجميع، بل تبدأ الكوابيس من حماقة هذر مقامرين؛ فعلى الضد من توقعات اليمنيين، الآملين بقليل من الراحة من العواصف السياسية التي تنخر حياتهم، عكس موقف جماعة الحوثي الأزمة العميقة التي تعيشها هذه الجماعة، أزمة الفكر الأحادي الجامد، والعقيدة العقائدية الأصولية التي لا تؤمن إلا بعقيدة "الشهادة والاصطفاء"، حتى لو أدى ذلك إلى إحراق الجميع وإحراق نفسها في نهاية المطاف؛ ففي أثناء محاصرة الرئيس هادي، رفضت جماعة الحوثي الحلول السياسية التي قدمتها بعض الأطراف اليمنية، لإخراج البلاد من مأزق المباراة الصفرية التي تخوضها الجماعة مع الجميع، لكن الرعونة السياسية التي اتسمت بها قيادة الجماعة، وَوَسَمت أداءها السياسي طوال الفترة الماضية، برزت أكثر بعد مغادرة الرئيس هادي، حيث لم تعمل الجماعة على إعادة قراءة المعطيات السياسية، وتحليلها بمنطق عقلاني، يجنب اليمنيين الحروب والصراعات العبثية، واستمرت في نهجها القديم في إدارة دفة البلاد في اتجاه واحد ووحيد، وهو إسقاط السفينة المترنحة، وتأكيد حتمية الانهيار الاقتصادي وتشظي اليمن، إما من خلال هروبها إلى الأمام عبر التصعيد الميداني لمواجهةٍ قد تكون محتملة في الوقت القريب مع الرئيس هادي، أو تعميق الأزمة السياسية اليمنية بتكريس الانقسام السياسي والجغرافي والمذهبي ما بين سلطة الأمر الواقع التي فرضتها الجماعة في صنعاء والسلطة الشرعية المنقوصة لهادي في عدن.
اتخذ المنحى الهروبي الذي تنطلق منه الجماعة قاعدة لأدائها، في الأيام الماضية، بعداً عسكرياً بعد إفشالها المسار السياسي، حيث عمدت الجماعة، كما فعل قبلها حزب المؤتمر الشعبي وحزب الاصلاح لاحقاً، إلى خلق مراكز نفوذ لها في المؤسسة العسكرية والأمنية، وإعادة ترتيبها وفق طريقتها الأحادية، ما عزز زج المؤسستين في صراع حتمي مع المواطنين والقوى السياسية الرافضة للانقلاب؛ كما قامت الجماعة بتغيير قيادات عسكرية وأمنية كثيرة بعناصر موالية لها، وإلحاق اللجان الشعبية المسلحة التابعة لهم في الجيش والأمن، بما يضمن لها التغلغل في المؤسسة العسكرية والأمنية، إضافة إلى بسط سيطرة مليشياتها على قواعد عسكرية بتنسيق مع الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، معززة من سيطرتها الجزئية على البيضاء، المدينة الاستراتيجية في مخطط سيطرتها على شمال اليمن وقاعدة الانطلاق إلى الجنوب.
وسيطرت الجماعة على لواء الدفاع الساحلي في مدينة الحديدة، بعد اشتباكات مع أفراد اللواء، وسقوط قتلى، في حين أخذت عملياتها على الأرض بُعداً خطيراً بعد محاولة استيلائها على قيادة قوات العمليات الخاصة (قوات النخبة) في معسكر "الصُباحة" التابع للحرس الجمهوري ولأحمد علي عبدالله صالح، وهو ما يرجح اتجاه الجماعة، في الأيام المقبلة، لاستخدام الورقة العسكرية، بالتنسيق مع علي عبدالله صالح، وإن كان إعلام الأخير قد حاول تقيدم رواية مختلفة لسقوط معسكر الصباحة، ومقاومة الأفراد التابعين له، والترويج الإعلامي لوجود صراع بين صالح وجماعة الحوثي، غير أنه لا يمكن قراءة هذه الرواية إلا في ضوء قلق صالح من استمرار العقوبات الدولية عليه، وكشف أرصدته والتلويح بتجميدها. وفي رأيي، لا تختلف تعقيدات المشهد السياسي اليمني، في هذه المرحلة، عن تعقيدات الوضع العسكري وتوازنات القوى التي تحكمه حالياً، والتي تميل لأسباب موضوعية لصالح التحالف القائم بين جماعة الحوثي، وعلي عبدالله صالح من ورائها. ومن هنا، قد تكون الورقة العسكرية اللعبة المقبلة لأطراف سياسية، لا يعوزها الجنون.
"لا خاسر سوى جموع اليمنيين البسطاء والطيبين والمقهورين والمتعبين من فُرجة باهظة الكلفة"
وفي الجبهة السياسية الأخرى من التوازن المختل، يحاول الرئيس هادي من مدينة عدن إيجاد تكتل عسكري وسياسي موازي، يعزز من سلطته الشرعية من جهة، ويسهم في مزيد من العزل السياسي للحوثيين من جهة ثانية، خصوصاً بعد تغير الموقف الإقليمي والدولي لصالحه، إلا أن الرئيس هادي لا يبدو أنه ينطلق من جبهة سياسية متماسكة أو آمنة، فأيام العسل مع شتات فصائل الحراك الجنوبي قد تنتهي، في أي وقت، بناء على تصعيد سياسي على الأرض، أو تدخل قوى إقليمية، ترى في القضية الجنوبية "قميص عثمان" التي ستشعل به حروبها، وتحقق مصالحها في المنطقة. كما أن الثقل العسكري للرئيس هادي لا يبدو ملحوظاً إلا في اللجان الشعبية في مدينة عدن وحدها، ويبدو أنه لم يستفد، حتى الآن، من أخطائه السياسية السابقة في إدارته المرحلة الانتقالية، إذ تؤكد تصريحاته، أخيراً، على إصراره على فرض دولة الأقاليم أمراً واقعاً على اليمنيين، وتمسكه بمشروع مسودة الدستور المتنازع عليه، على الرغم من تحفظ قوى سياسية يمنية على صيغته الحالية، ما يصادر حق اليمنيين في تقرير مستقبل بلادهم، إما بالسياسة وسلطة المجتمع الدولي من الرئيس هادي، أو بقوة السلاح والغلبة من الحوثيين.
ما بين العزل والعزل الآخر، والتلويح بقوة السلاح أو وبالشرعية التوافقية والتدخل الخارجي، ستبدأ فصول المواجهة المرتقبة بين سلطة جماعة أصولية، لا تؤمن إلا بالهروب إلى الأمام، لتحقيق انتصاراتها، ولو على جثث اليمنيين، وشرعية رئيس يريد أن يستعيد هيبته، وستكون المؤسسة العسكرية والأمنية الأرضية التي سيتقاتل عليها المتصارعون، والتي ستحسم المعركة في النهاية، ولا يبدو أن الجبهتين المتربصتين ببعضهما ستنتظران طويلاً لخوض المغامرة الأخيرة. لكن، في النهاية أيضاً لا خاسر سوى جموع اليمنيين البسطاء والطيبين والمقهورين والمتعبين من فُرجة باهظة الكلفة.
/نقلا عن العربي الجديد/