مصطفى احمد النعمان
مثيرة للسخرية تلك المشاهد والتصريحات التي نراها ونسمعها من زوار فندق الموفينبيك بصنعاء وهم يلتفون حول معلمهم الأممي، مستنزفين وقتهم الثمين في تبادل أحاديث لا قيمة لها ولا تأثير، ومنتظرين لظهور الدخان الأبيض من غرفة بعيدة يتفاوض فيها مندوبو عبد الملك الحوثي وعلي عبد الله صالح، وحين يتوافقان سيكون على ضيوف المنتجع مباركة ما يتوصل إليه «الزعيم» و«السيد» بعد التأكد من ظهور أسمائهم في وثيقة التوقيع النهائية، وليراجعوا الحصة التي وهباهم إياها، ولا أظن إلا أنهم سيبتلعون الفتات الذي يتناسب مع وزنهم الحقيقي، وسيزعمون أنهم انطلقوا من حرص على سلامة الوطن، بينما الواقع أنهم يتكالبون على أي موقع يمنحهم فرصة البقاء تحت دائرة الضوء.
مساء الخميس الماضي خرج بنعمر ليبشر اليمنيين بأن اتفاقا قد تم التوصل إليه ونص على استحداث مجلس جديد (مجلس الشعب الانتقالي) يشكل مع مجلس النواب الحالي مجلسا جديدا اسمه (المجلس الوطني)... ماذا يعني هذا؟ من دون مراوغة وكلام مكرر مللنا سماعه من مبعوث العناية الأممية؛ فالإعلان الدستوري الذي وصفه بالـ«أحادي الجانب» سيتم تمريره بإشراف دولي مدفوع الأجر، ولا أستبعد إقرار بقية بنوده تدريجيا، ولم يكن مفاجئا أن يعلن إنجازا جديدا وصفه بـ«الاختراق»، فيضيفه إلى سجل معجزاته التي صار أغلب اليمنيين ينظرون إليها بسخرية ممزوجة بالحنق والريبة.
زوار المنتجع الحاليون لا يتوقفون عن إدهاشنا؛ فنجد ممثل حزب الإصلاح يقدم نموذجا عجيبا للتعبير عن ادعاء حزنه على استمرار حبس الرئيس السابق هادي في منزله، فكتب ورقة وضعها أمام كرسيه قال فيها إنه لن يشارك في النقاش الدائر في المنتجع وإن موقفه لن يتبدل قبل الإفراج عن الرئيس هادي كي يتمكن من السفر للعلاج، وكنت أتمنى لو أن الحريصين على صحته حقا ذهبوا للاعتصام بدلا عن الاحتجاج الذي ينتهي عادة بالخضوع لكل ما يمليه حامل السلاح.
في هذه الأثناء تنشغل دوائر صنع القرار في دول مجلس التعاون الخليجي بالبحث عن أنجع الوسائل المتاحة على الأرض للتعامل مع الإجراءات التي فرضها الحوثيون بالقوة، كما تبدي حرصا ظهر قويا عبر البيان الأخير الصادر عن اجتماع وزراء خارجية دول المجلس، إلا أن عليها الاعتراف بأن قدرتها العملية على الأرض مقيدة بكوابح نتجت لابتعادهم عن المشهد اليمني طيلة السنوات الماضية، وقد نبهت هنا ولأكثر من مرة إلى ضرورة التعاطي النشط والمستمر لدول المجلس إيجابيا في الشأن اليمني؛ لأن ما يجري هناك يؤثر حتما على المشهد الخليجي، وكررت أنه ليس من الحكمة ولا المصلحة المشتركة إفلات الملف اليمني بيد مبعوث دولي عبث به طيلة 3 سنوات دون حسيب ولا رقيب، فالسيد جمال بنعمر موظف يسعى إلى نيل رضا رؤسائه أولا، وذلك أمر طبيعي، وواجبه المهني يستدعي، كما من غيره ممن يقوم بمهام مماثلة، الاستماع إلى أصوات الدول الكبرى الحقيقية والمنظمة التي تنفق عليه، ومفروض عليه أن يعكس سياساتها مجتمعة.
أتاح الغياب الخليجي الفاعل عن اليمن الفرصة للقوة الإقليمية المنافسة، وهي إيران، أن تنشط وأن تنجح في التواصل مع المكونات اليمنية الجديدة، في حين ظلت الأجهزة المعنية تمارس أنشطتها عبر الوسائل التقليدية التي لم تثبت نجاعتها في الملمات، وأعلم أن الحيرة هي عنوان ما يدور حاليا في أغلب العواصم الخليجية... الحيرة في كيفية التعاطي مع الملف اليمني بعد تراكم المعضلات فيه وتعقد مشكلاته، وصار التعامل معه بالبيانات فقط غير مجد، وهنا يكون من الضروري البحث عن مقاربة جديدة تأخذ في الاعتبار المتغيرات التي حدثت داخل المجتمع اليمني خلال السنوات الأخيرة وأعادت صياغته بطريقة شديدة الاختلاف عن الماضي، ولم يلق تهديد وزراء الخارجية الخليجيين آذانا صاغية لدى الحوثيين، وواضح أن مرد ذلك ضعف رؤيتهم السياسية وجهل المعرفة في التعامل بين الدول، واختلاط الأمر عليهم بين مسؤوليتهم قبل السيطرة على مقدرات الحكم وبعدها، فهم يتعاملون مع القضايا الدولية بنفس أسلوب معالجتهم للمشكلات القبلية، ولا يمتلكون تصورا واضحا عن تبعات الإجراءات والتدابير التي يتخذونها ضد السفارات قبل أن تغلق أبوابها وترحل عن صنعاء، ولا يستوعبون تشابك المصالح بين الدول، حتى وإنْ كانت غير مرئية، ويعتقدون أن بإمكانهم الاكتفاء بالتعامل مع إيران، وربما روسيا والصين، وهو قصور مروع في تفكير جماعة تريد أن تتحكم بالبلاد عبر القوة والقسوة وسياسة الأمر الواقع التي ستنجح آنيا في استقرار الأمور بيدها، ولكنها ستدخل البلاد في سلسلة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي لا قبل لها بمعالجتها.
قبل عدة أشهر قرر مجلس التعاون تعيين ممثل للأمين العام، وتم إرساله إلى اليمن مرتين، ثم عاد المجلس للانكفاء، ولم يعد اليمنيون يفهمون سر التباطؤ الخليجي خصوصا، والعربي عموما، وظهرت أصوات تتحدث عن أسباب الغياب العربي عن اليمن وتحيلها إلى رغبة إقليمية في معاقبة جماعة الإخوان المسلمين ومحاربة «القاعدة»، ورغم أن الاثنين يمثلان خصومة شديدة للحوثيين فإن هذا الطرح تنقصه الحصافة والذكاء، فليس من المعقول حدوث مثل هذا المشهد؛ لأنه يعني ببساطة منح غطاء إقليمي وعربي لجماعة مسلحة خارجة عن القانون.. في الوقت نفسه ظهرت تحليلات في صحف عربية تستنتج أن اليمن سيصبح مقبرة للإيرانيين، ويتناسى المحللون أن ليس على الأرض جندي أو خبير إيراني واحد، كما أن الحديث عن عدم قدرة طهران على الإنفاق في الأصقاع التي امتدت إليها يدها ليس دقيقا؛ لأن الإنفاق في اليمن ليس باهظ الثمن ولا تمكن مقارنته بما ينفق في سوريا والعراق، كما أنه في حالة استكمال سيطرة الحوثيين على خط الغاز الممتد من مأرب ثم شبوة وحضرموت، فإن الموارد المتاحة ستمكنهم من تسيير أمور البلاد وربما تغطية النفقات العامة.
أعود إلى السؤال المهم: كيف ستتصرف دول الخليج العربية؟
هناك مؤشرات قوية إلى أن دول الخليج ستصدر سلسلة من العقوبات الاقتصادية لإضعاف الحوثيين، وهو إجراء لا أعلم مدى قدرته في التأثير عليهم وإجبارهم على إعادة الدولة المسلوبة والإفراج عن الرئيس هادي وأسرته وبقية الرهائن، ولكن كان من المحتمل نجاح العقوبات لو أن المجتمعين في الموفينبيك بإشراف بنعمر قد باشروا بمعاقبة الحوثيين سياسيا، وقاطعوهم ليس على طريقة ممثل الإصلاح، ولكن بالإصرار على رفض التعامل مع مغتصبي السلطة، فالعقوبات الخارجية المعزولة عن الدعم الداخلي لا تنجح مهما بلغت قسوتها؛ لذا وجب البحث عن أسلوب وفكر مختلفين، فهل تفعلها دول الخليج وتستعيد اليمن؟
نقلا عن "الشرق الاوسط"