احسان الفقية
هناك من يشكك في صحة (بروتوكولات عمائم قم) ويعتبرها ضربًا من هواجس نظرية المؤامرة التي تتسم بها العقلية العربية، وهو الأمر نفسه الذي قابل به البعض بروتوكولات حكماء صهيون، ونظروا إليها على هذا النحو، ولعل أصحاب النوايا الطيبة يتجهون إلى هذا القول بدافع افتقاد أمتنا لأي مشروع جامع على غرار المشروعين الصهيوني والفارسي؛ فلذلك يستبعدون أن هناك خطة ما حيكت وتجسدت فصولها في الواقع.
غير أني أُعقّب بما قاله الشيخ محمود القاسم أبو الأمين على المشككين بصحة بروتوكولات حكماء صهيون: (ليس المهم صحة الوثيقة تاريخيًا بقدر شهادة الوقائع والأحداث لها بالصحة؛ من خلال التطبيق الدقيق لكثير من تعاليمها).
وفعليًّا صدق؛ وأستعير منه كلمته في التعقيب على المشككين في صحة بروتوكولات مرجعيات وعمائم قم:
(هب أن الوثيقة (مفبركة)، فأمامنا الواقع يشهد بأن الصفويين لا يرتجلون، وأن لديهم مشروعًا وخطة نقلتهم في حوالي ربع قرن إلى دولة من أقوى دول المنطقة وأشدها نفوذًا وتمددًا واختراقًا).
فليس بعسير أن يتم قبول صحة الوثيقة، في ظل السيطرة الإيرانية الكاملة على العراق حتى غدت إحدى الولايات الإيرانية.
وليس بعسير قبولها في ظل سيطرة الحوثيين على اليمن، وهم -كما هو معلوم للقاصي والداني- جزء من المشروع الإيراني.
وليس بعسير قبولها في ظل الرعاية الكاملة لنظام الأسد والحيلولة دون سقوطه، عن طريق الدعم العسكري واللوجستي، والتواجد المكثف للحرس الثوري وقيادته المعارك، بالإضافة لتجييش الروافض من كل البقاع للحفاظ على سوريا الأسد، إحدى أهم حلقات الهلال الشيعي الصفوي.
وليس بعسير قبولها وحزب الله اللبناني الذراع الإيراني في لبنان يغرد خارج السرب، ويخرج عن السياق الوطني، ويتعامل مع الملفات الخارجية بمنأى عن الحكومة، ويرسل كتائبه تترا لإنقاذ المشروع الإيراني في سوريا، بالإضافة إلى دوره المشئوم في قمع المقاومة على الحدود، والتعامل مع إسرائيل وفق ما تقتضيه المصالح الإيرانية.
هذا إلى جانب التمدد الإيراني الذي لا تخفى معالمه في مصر والخليج وأفغانستان وباكستان، حتى وصلت أنشطته التبشيرية إلى العمق الإفريقي، وإقامة علاقة ناجحة مع العديد من دول العالم.
على هذا الرابط مقالة بروتوكولات عمائم قم، لمن يريد معرفة المزيد ضمن مقالة كتبتها منذ أيام.
المشروع الإيراني في اليمن
تُعدّ اليمن من أكثر الدول العربية قابلية لاختراق المشاريع الخارجية، وعلى وجه الخصوص ذات الأبعاد المذهبية والطائفية؛ نظرًا لضعف سلطة الدولة التي تحكم مجتمعًا قبليًا، ولضعف الموارد الاقتصادية، بالإضافة إلى الانقسامات السياسية والاجتماعية في اليمن.
لقد سهلت هذه العوامل نجاح التوغل الإيراني في اليمن وتصدير مبادئ الثورة الخمينية المحملة على أساس طائفي، تجلى ذلك في سيطرتها على الدولة اليمنية من خلال صعود الحوثيين.
وللحديث جذور وغراس.
الوجود الإيراني قبل الثورة اليمنية
لم تكن الإمامية الاثنى عشرية (أو الجعفرية) -التي قامت عليها الجمهورية الإيرانية فيما بعد- لها تأثير يذكر في عهد دولة الإمامة في اليمن، والتي تسير على المنهج الزيدي.
ومن المعلوم أن بين المذهبين تاريخًا طويلًا من التناحر والعداء بلغ حد التكفير، فهناك خلافات أصولية بينهما، من بينها أن الإمامة عند الجعفرية أصل من الأصول الدين، وهو ما يجعل الخروج عليه كفرًا بواحًا، فلما خالفهم الزيدية في ذلك الأصل وقالوا بأن الأئمة الاثنى عشر ليسوا مُعيّنين بالنص، وأن الإمام قد يكون من نسل الحسن كما الحسين، كفّرهم الإمامية في ذلك، بالإضافة إلى أوجه أخرى متعددة للخلاف لا مجال لذكرها هنا.
قامت الثورة اليمنية عام 1962 على يد فرقاء متنوعين: يساريين، قوميين، علمانيين، وبعض الإسلاميين، كلهم اجتمعوا فقط على زوال الإمامة باعتبارها تمثل سلطة كهنوتية، إلى هذا لم تملك هذه الاتجاهات أي عداء للوجود الشيعي الاثنى عشري في اليمن، حيث لم تكن ثورة الخميني قد قامت بعد.
ثورة الخميني:
منذ اندلاع ثورة الخميني عام 1979، اتجهت الجمهورية الإيرانية ذات المشروع القومي الفارسي المرتكز على أساس مذهبي، إلى تصدير الثورة، وهو ما أكد عليه الخميني عندما قال في الذكرى الأولى لثورته: “إننا نعمل على تصدير ثورتنا إلى مختلف أنحاء العالم“.
ورغم وقوف اليمن بجانب العراق في حرب الخليج الأولى (الحرب العراقية الإيرانية)، إلا أن ذلك لم يمنع النشاط التبشيري الإيراني والذي بدأ داخل اليمن في بداية الثمانينيات، ولعل أولى ثمراته كانت إنشاء “اتحاد الشباب” عام 1986، على يد صلاح أحمد فليتة، والذي كانت مبادئ الثورة الإيرانية أهم مواد التدريس فيه، وكان محمد بدر الدين الحوثي ضمن القائمين على التدريس في الاتحاد.
وكان العميد عبد الله العليبي عضو المكتب السياسي للتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، من أبرز النخب السياسية التي اعتنقت المذهب الإمامي، وأعلن مبايعته للخميني بعد تسلله إلى السفارة الإيرانية عام 1983.
كان للتوجه الخميني العسكري في تصدير الثورة، أثرٌ سلبيٌ على الشعوب العربية أذهبت كثيرًا من شعبية الثورة التي اكتسبتها لدى اندلاعها، ولكن بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية ثم وصول علي هاشمي رفسنجاني إلى سدة الحكم عام 1989، حوَّل الأخير هذا المسار، وعمل على تصدير المشروع عن طريق آليات سياسية وفكرية، وسعى إلى التقارب مع دول الجوار، الأمر الذي سهل تصدير مبادئ الثورة الخمينية وأفكارها في الداخل اليمني.
وقد صدر في عهده كتاب “تصدير الثورة كما يراها الخميني” جاء فيه ما نصه:
(مبدأ تصدير الثورة لا يعني الهجوم العسكري وحشد الجيوش ضد البلدان الأخرى مطلقًا، لكنه يعني استخدام أساليب تنسجم ومتطلبات المرحلة الجديدة).
واستغلت إيران هذا الهدوء في العلاقات مع دول الجوار في إقامة المراكز الثقافية والمشروعات الاستثمارية والجمعيات الخيرية داخل اليمن، بالإضافة إلى بذل المنح الدراسية داخل إيران لليمنيين وغير اليمنيين، وهو ما روج لأفكار الثورة الخمينية ومذهبها الجعفري بصورة قوية.
كيف تحول الحوثيون لورقة إيرانية
كان بدر الدين الحوثي أحد أبرز الشخصيات الدينية المتأثرة بالمذهب الإمامي وهو ما أحدث الشقاق بينه وبين علماء الزيدية، ليسافر على خلفية هذا النزاع إلى طهران لعدة سنوات، ليعود إلى بلاده متشبعًا ومروجًا لمذهب الإمامية، وقام بإرسال شباب صعدة إلى الحوزات العلمية في إيران.
ووافق بدر الدين الحوثي الزيدي الجارودي، الإمامية في النص على الأئمة وحصرهم في نسل الحسين، كما وافقهم في تكفير غالبية الصحابة، وصرح بذلك قائلًا عن أصحاب رسول الله: “أؤمن بتكفيرهم لكونهم خالفوا رسول الله صلى الله عليه وآله“، مخالفًا في ذلك عموم الزيدية.
ويعد حسين الحوثي -الابن الأكبر لـ بدر الدين- المؤسس الفعلي لجماعة الحوثيين، وأسس حزب “الحق” بعد فتح المجال للتعددية السياسية عام 1990، واحتل مقعدًا في مجلس النواب، وأسس كذلك “تنظيم الشباب المؤمن” عام 1991.
وارتبط حسين كوالده بمرجعيات إيران، وسافر إلى قم، وتأثر كثيرًا بالثورة الخمينية ومبادئها، وتلقى دورات تدريبية لدى حزب الله اللبناني الشيعي، بالإضافة إلى إقامة علاقات واسعة النطاق مع الحرس الثوري الإيراني.
الحوثيون يحملون السلاح
حوّل حسين الحوثي مدرسته التعليمية التي تقوم عليها إلى ميليشيات مسلحة -في ظل حالة الفراغ الأمني والتنموي التي أحدثها نظام علي عبد الله صالح، وانكماشه داخل صنعاء- وخاض ضد الحكومة عدة حروب ابتداء من 2004، خلفه في قيادتها بعد مقتله، شقيقه “عبد الملك الحوثي” الزعيم الحالي للحوثيين.
وفي هذه الفترة ظهر التعاطف الإيراني مع المتمردين الحوثيين، وأقحمت وسائل الإعلام بطهران النعرة الطائفية في الحرب، واعتبرت أنه اضطهاد للشيعة عمومًا سواء كانوا من الزيدية أو الإمامية.
وقام عبد الملك الحوثي بتوسيع نطاق الصراع، وفتح جبهات قرب صنعاء، وتلقى دعمًا عسكريًا كبيرًا من طهران خاض به حربه ضد الحكومة اليمنية الضالعة في إطالة أمد القتال دون حسمه.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أشير إلى أن قادة الحراك الجنوبي وأبرزهم (علي سالم البيض) قد اتجهوا للحصول على الدعم الإيراني، ونزل البيض في ضيافة حزب الله، وفتحت له دمشق وطهران ولبنان لتكون مراكز لتدريب نشطاء الحراك، وبذلك لم تقم ثورة اليمن 2011 إلا ولدى إيران ورقتان للسيطرة على الداخل اليمني.
وقامت الثورة
وخلال ثورة 2011 تعمد الحوثيون الظهور بصورة تميزهم، ثم كانت المبادرة الخليجية التي أنقذت علي عبد الله صالح، لتظهر بعدها الأموال الإيرانية والدعم الإعلامي للحوثيين، في محاولة عرقلة المسيرة السياسية للبلاد.
وتنامى الدور الإيراني في دعم الحوثيين عقب تشكيل حكومة الوفاق الوطني وتولي عبد ربه منصور هادي منصبه كرئيس توافقي، واستقطبت عددًا من الكيانات الاجتماعية والنخب السياسية والإعلامية لتدافع عن التدخل الإيراني في اليمن.
وخلال حالة انعدام الاستقرار دفعت إيران ذراعها اليمني “الحوثي” لتوسيع النفوذ العسكري في البلاد، ودخل الحوثيون في حروب مع الأطياف المعارضة، مثل السلفيين في دماج وكتاف، وقبائل محافظة حجة، وسيطروا على عمران حتى وصلت الميليشيات إلى صنعاء واحتلتها، حتى صارت جماعة الحوثي هي المهيمنة على الوضع في اليمن، وهو ما أدى إلى استقالة هادي، تبعه إعلانهم الدستوري الذي هو بالأصل انقلاب مسلح.
طوال هذه الفترة، والدعم الإيراني مستمر، سواء تمثل في شحنات أسلحة، أو أموال، أو شراء ذمم رخيصة سهلت سيطرة الحوثيين.
أبرز المصالح الإيرانية في اليمن
تمثل اليمن حلقة هامة في الهلال الشيعي الذي تنشده إيران عبر مشروعها التوسعي المصدِّر للثورة الخمينية، حيث تعد اليمن هي الرأس الجنوبي للهلال.
وتسعى إيران عن طريق السيطرة على اليمن من حصار الأراضي السعودية معاقل السنة، لمواجهة الفكر السلفي الوهابي بحسب تسميتهم له.
كما تسعى إيران من خلال نفوذها في اليمن إلى السيطرة على مضيق باب المندب بما له من أهمية استراتيجية لحركة التجارة العالمية للضغط على الدول الغربية.
عوائق تمرير المشروع الإيراني في اليمن
نستطيع القول وفق آخر المعطيات على الساحة، إن المشروع الإيراني باليمن يواجه عدة عوائق تحول دون تمريره، أبرزها:
أولًا: المشاريع التوسعية أرهقت الخزينة الإيرانية؛ ففي سوريا تدفع إيران فواتير الحرب بالكامل، وحافظت على الاقتصاد السوري لنظام الأسد من الانهيار رغم طول أمد الحرب.
كما أنها تدعم حزب الله في سوريا بالمال والسلاح، وبمثله تدعم الميليشيات الشيعية التي كثرت وانتشرت في العراق.
وإضافة إلى ذلك تدعم الأنشطة الاقتصادية والخدمية والاجتماعية في العديد من بلدان العالم في الشرق والغرب لنشر التشيع وتصدير المشروع، وزد عليه الأزمة الاقتصادية التي عانى منها بعد خفض سعر النفط.
ثم ها هي بعد كل هذا الدعم للحوثيين، عليها أن تتحمل اصطدام الحوثيين بالالتزامات الخدمية وتسيير الأمور الحياتية والمعيشية للمواطنين.
ثانيًا: هناك إرهاصات ليقظةٍ خليجية تتصدى للمشروع الإيراني في ظل القيادة السعودية الجديدة، بالإضافة إلى التقارب السعودي القطري التركي، ولعل أبرز الإشارات ما كان من إقرار دول الخليج مؤخرًا بأن ما يحدث في اليمن من قبل الحوثيين انقلاب مرفوض.
ثالثًا: على الحوثيين وسادتهم الإيرانيين التصدي للقبائل الرافضة لانقلاب الحوثي وعلى وجه الخصوص قبائل مأرب، علمًا بأن هذه القبائل لديها أسلحة نوعية متطورة، وهناك أنباء عن تلقيها دعم عسكري من بعض دول المجلس.
رابعًا: سيكون على الحوثيين مواجهة تنظيم القاعدة في اليمن، والذي بدأ في الدخول على خط المواجهة بشكل نسبي.
وقلت سابقًا وأكرر:
إن إيران وذراعها الحوثي لن يستطيعوا الهيمنة على اليمن، لأسباب عدة أبرزها تركيبة المجتمع اليمني وقيامه على التوازنات القبلية، وأيضًا لن يهنأ الفُرس -في تقديري الشخصي- بالإمساك بزمام الأمور في اليمن، وسيكون الحوثيون هم الورقة الخاسرة على الطاولة اليمنية.