طلال صالح بنان
في نصف القرن الأخير وبعد قيام النظام الجمهوري في اليمن واستقرار وضعه الإقليمي، ظن الكثيرون أن اليمن في طريقه تجاه إقامة دولة قومية حديثة متجاوزاً التعقيدات السكانية والثقافية والطائفية والقبلية ومظاهر التخلف السائدة، آنذاك.
هؤلاء المتفائلون بمستقبل واعد لليمن خاصة بعد أن استقر الأمر للنظام الجمهوري محليا وإقليميا ودوليا، لم يكن تفاؤلهم يتجاوز ما بدا وكأنه إرهاصات لدولة قومية حديثة أخذت تبدي حضورا ملفتا في واقع الحياة السياسية في اليمن، مواكبة لحركة التاريخ. صحيح أن اليمن شهد عدم استقرار سياسي نتيجة لتوالي الانقلابات العسكرية، حتى قرب نهاية عقد الثمانينيات، إلا أن اليمن يمكن القول إنه شهد، في عقد التسعينيات، استقرارا سياسيا وحراكا مجتمعيا نشطا وتنمية سياسية واعدة. فقد جرى تقنين القضاء.. وظهرت صحافة تتمتع بقدر كبير من الحرية..
وأخذت الأحزاب السياسية في قيادة العملية السياسية نحو احتواء الصراع السياسي سلميا في المجتمع والدولة، بالإضافة إلى إعادة توحيد شطري اليمن. حتى لا نفرط في التفاؤل لا يمكن أن نغفل متغيرين أساسيين في تاريخ اليمن الحديث.
المتغير الأول هو «العسكراتية» والمتغير الثاني القبيلة. بداية: العسكر كانوا وراء ما بدا للبعض وكأنه صورة مشوهة لتنمية سياسية حقيقية في اليمن. كان لهذا البعض -وهم إلى حد كبير محقون- أن العسكر استخدموا مظاهر وطقوس، بل وحتى مؤسسات النظام السياسي الرسمية، التي من المفترض أن تكون نتاجاً لحراكٍ ديمقراطي حقيقي في البلاد، من أجل دعم بقائهم في السلطة، بل وحتى تمكين استمرارهم في الحكم.
في المقابل: كان هناك دور موازٍ للقبيلة في واقع اليمن السياسي. في حقيقة الأمر لم تفرز التجربة الديمقراطية الحديثة في اليمن تعددية سياسية حقيقية تتجاوز واقع المجتمع اليمني القبلي والطائفي والجهوي، دعك من تأثير تلك التجربة على دور ومكانة المؤسسة العسكرية في البلاد.
من مثالب التجربة الديمقراطية في اليمن، أنها أحدثت تعددية طائفية وقبلية وجهوية، بدلا من شكل ومضمون التعددية السياسية التي هي من مظاهر ومضمون الدولة القومية الحديثة. منذ البداية: أبدى الوضع القبلي في اليمن تحديا قويا، بل ومسلحا، في مواجهة الدولة. في كثير من مناطق اليمن كان الذي يحكم فعليا هي القبيلة وليست الدولة! كثيراً ما كان هذا التحدي القبلي السافر للدولة يمثل إحراجا لصنعاء في علاقتها بالخارج. تمثل ذلك في عمليات خطف الأجانب كرهائن وعجز الدولة عن تحريرهم، إلا عن طريق افتدائهم من آسريهم القبليين.. وكذا فرض إتاوات على شركات النفط التي تنقب عنه في المناطق القبلية، خارج سيطرة الحكومة المركزية في صنعاء.
القبيلة لم تكن تتحدى الدولة، فحسب، بل أيضا إرادة الشعب، كما ظهر في ثورة فبراير ????. لقد اتفقت القبيلة مع العسكر على إجهاض تلك الثورة، ثم انقلبت القبيلة على حلفائها من العسكر، كما تطور مؤخراً، لترتب انقلابا طائفيا على الدولة وتستولي فعليا على الحكم في صنعاء، فتعزل الرئيس الشرعي وتحتجز أعضاء الحكومة وتوقف فعليا العمل بالدستور وتقوض مؤسسات الدولة المنتخبة، لتعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ربما لمئات السنين.
خطورة استيلاء الحوثيين على الدولة في اليمن، ليس في كون ذلك انقلابا مسلحا للقبيلة على الدولة في صراع مرير بينهما امتد لأكثر من ستة عقود من تاريخ اليمن الحديث، بل الخطورة في البعد الطائفي والإقليمي لدوافع الحوثيين. قوى إقليمية في المنطقة، إيران على وجه الخصوص، تريد أن تنجح في اليمن ما فشلته في لبنان، وتتعثر في تحقيقه في العراق وسوريا. تريد طهران أن تجعل من اليمن معقلا دينيا وطائفيا وسياسيا للأمامية الاثنى عشرية في اليمن، وهذا اختراق طائفي غير تقليدي في المجتمع والدولة في اليمن، وليس كما يعتقد البعض عودة الإمامة بمذهبها الزيدي الذي حكم اليمن لعقود.
فإذا أضفت القبيلية إلى الطائفية إلى المذهبية الإقليمية الذي يمثلها التواجد الإيراني في فكر وحركة وتوجه الحوثيين، فإن القلق لن يكون على مصير اليمن الدولة والوطن والتاريخ والمكانة الإقليمية، فقط، بل ويتعدى ذلك ليشكل خطرا حقيقيا وناجزا على الإقليم، وعلى العرب بوجه خاص، بل لا نتجاوز إذا قلنا على سلام العالم وأمنه. لقد شرعت العديد من الدول المهمة إقليميا ودوليا في غلق سفاراتها في صنعاء تعبيرا عما أصبح يشكله الوضع في اليمن من قلق دولي انعكس في مناقشات داخل مجلس الأمن.
تحت حكم الحوثيين لن تكون هناك دولة في اليمن ولن تعود القبيلة لوضعها التقليدي، ولا لقيمها المتوارثة، ولا حتى لتعدديتها المذهبية التقليدية. الخطورة أن يعود اليمن لعهود ما قبل الإسلام المظلمة؛ ولاية فارسية يحكمها مندوب سام يعينه الملالي من طهران. لهذا المدى الوضع جد خطير في اليمن، عندما تتمذهب القبيلة وتُختطف الدولة بيد الحوثيين صنيعة ملالي قم.