د. عبد الوهاب الروحاني
المقدمات الخاطئة تقود إلى نتائج خاطئة - كما يقال - والمسار السياسي الذي شهدته الساحة اليمنية خلال الثلاث السنوات الماضية من حكم الرئيس هادي كان في مجمله خاطئا، بدءا بالتشكيل غير الوطني لمؤتمر الحوار الذي روج للانفصال، ومرورا بمخرجاته التي فصلت على مقاسات غير وطنية، وأسست للصراعات والنزعات الجهوية، وقسمت البلاد إلى كانتونات وأقاليم نشأ عنها تخندق إقليمي وتوجه مذهبي في سلوكيات وممارسات الدولة والمجتمع.
وهذا الخروج الواضح على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة التي هندست لها أحزاب «المشترك» مثَّل انقلابا متكامل الأركان على المبادرة، فقاد بالمقابل إلى انقلاب مماثل، ولكن بعد سلسلة من الأخطاء والتجاوزات الرسمية وغير الرسمية، التي كان من ضمنها سقوط عمران، وصنعاء، واقتحام دار الرئاسة وانتهاء بذهاب الحوثيين (أنصار الله) منفردين إلى «الإعلان الدستوري» الذي قطع آخر خيط للشرعية الدستورية بحل مجلس النواب، والذي تم بعيدا عن الزحمة وجوقة الأحزاب التي تعودت التسابق على تقاسم الوطن وتوزيع الحصص.
فقد كان بإمكان الحوثيين (أنصار الله) يوم أن سيطروا على دار الرئاسة في صنعاء في 19 يناير (كانون الثاني) الماضي أن يرتبوا لصيغة جديدة ومؤقتة لرأس النظام المنهار، لكنهم تريثوا على أمل أن يفاوضهم الرئيس، غير مدركين أن وصول سلاحهم إلى عقر داره سيقود إلى تداعيات داخلية وخارجية، وسيدفع الرئيس لأن يقدم استقالته، فظلوا على أمل في استثمار الرئيس والاستفادة من بقائه رئيسا.. ولذلك كانت الاستقالة بالنسبة لهم «مفاجِئة وغير مبررة» - كما جاء في الإعلان الدستوري - مما يعني أن السيطرة على دار الرئاسة، واقتحام منزل الرئيس وتجريده من حمايته، كانت في نظرهم - فقط - لغرض إفهام الرئيس والأحزاب المتحالفة معه، أنهم قد أصبحوا القوة المسيطرة في الساحة، وهي الحقيقة التي لم يفهمها الرئيس من قبل، ولم يفهمها حتى مستشاروه السياسيون والحزبيون «الكبار» من أمثال الإرياني، وياسين نعمان، والأنسي، واليدومي، فكانت النتيجة انقلاب الحوثيين على «الشرعية» المنقلب عليها أصلا.
فالحوثيون (أنصار الله) الذين أسقطوا صنعاء في سبتمبر (أيلول) 2014، كانوا يسعون لاحتلال موقع الإصلاح (إخوان اليمن) في توجيه القرار السياسي من عتبات قصر الرئيس هادي، وكان ذلك هو الأمر الطبيعي الذي لم يستوعبه القصر.. ولم تستوعبه قيادات الأحزاب المتحجرة.. فذهب الحوثيون إلى ما هو أبعد من المطالبة بإشراكهم في الهيئات الرقابية والدستورية، وأبعد من المطالبة بإلغاء المواد المختلف عليها في مسودة الدستور، فلم يكتفوا بأقل من السيطرة الكاملة على القرار السياسي اليمني، وهو الأمر الذي لا بد ستقبل به الأحزاب المعارضة لإعلان الحوثيين، وستذهب لمشاركتهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بحوار أو من دون حوار، ليس حبا في الوطن وخوفا على مستقبل الشعب، وإنما حفاظا على مصالحها واستمرارا لمكاسبها.
والإعلان الدستوري الذي خرج به الحوثيون (أنصار الله) في 6 فبراير (شباط) الحالي يبدو أنه سيضع الجميع أمام سلطة الأمر الواقع، ويمنح الحوثيين شرعية ممارسة السلطة الفعلية في البلاد، وهي - بالتأكيد - شرعية مستمدة من قوة السلاح، لكنها - في رأيي - لا تختلف كثيراً عن الشرعية التي كانت تمارس بها الأحزاب والتنظيمات السياسية سلطاتها خلال الفترة الماضية، فالحوثيون اختطفوا الشرعية التي كانت قد سرقتها الأحزاب التاريخية على الشعب اليمني باسم دماء شباب التغيير، ثم باسم المبادرة الخليجية التي انقلبوا عليها هي الأخرى بعد انتهاء مؤتمر الحوار الوطني مباشرة.
وعليه، فإذا ما ناقشنا شرعية ما أقدمت عليه الحركة الحوثية، من خطوة انفرادية باتجاه ما يسمى «ملء الفراغ الدستوري» (بعيدا عن مخاوف استثارة واستحضار الصراع المذهبي والإقليمي)، فهو من الناحية العملية ليس أكثر من محاكاة لفعل وممارسة هذه المسميات الحزبية العتيقة على مدى العقود الماضية، فهي تتقاسم الوطن باسم الشعب، وتحكم باسم الشعب، ولكن بعيدا عن الشعب ودون تفويض منه، وهي في الواقع أحزاب شكلية في معظمها، ليست لها قواعد شعبية، وقادتها لم تتغير منذ أربعينات وخمسينات القرن الماضي.. فليست لها شرعية ديمقراطية بداخلها، وليس لبعضها حتى مقرات تأوي إليها.
ومن هنا فـ«الشرعية» التي ينافح عنها هؤلاء في الفنادق وعبر البنادق ووسائل الإعلام، ليست شرعية الوطن، وإنما هي شرعية المصالح الضيقة، وشرعية القوى المستبدة التي تمارس أبشع أنواع الظلم والتزييف ضد هذا الشعب اليمني المنتهكة حقوقه، والمسفوكة دماؤه والمشردة كفاءاته في كل أرجاء العالم.
فالشرعية لا تزال مختطفة ومغتصبة منذ انعقاد مؤتمر الحوار الوطني وحتى هذه اللحظة، والعودة إليها هو بالعودة للمبادرة الخليجية، والدخول في انتخابات عامة ورئاسية مبكرة ووفقا لدستور دولة الوحدة.
/نقلا عن الشرق الاوسط/