بعد نقاشاتٍ بدأت، فعليًّا، في 21 الشهر الماضي (مايو/ أيار)، أَعلنت شخصياتٌ يمنيَّةٌ حضرمية في الرياض، برعايةٍ سعوديةٍ عالية المستوى، عن قيام مجلس سياسي محلي، أُطلق عليه اسم "مجلس حضرموت الوطني"، ليُصبح ثاني كيانٍ سياسي مدعومٍ خارجيًّا، إلى جانب المجلس الانتقالي الجنوبي (انفصالي) الذي تبنَّت الإمارات تأسيسه ورعايته منذ عام 2017. مجلس حضرموت الوطني أجدَّ مشهدٍ للتنافس الجيوسياسي بين السعودية والإمارات على النفوذ في المناطق الجنوبية والشرقية من اليمن، التي تشاطئ خليج عدن والبحر العربي، وتحتلُّ قطاعًا طويلًا من الحدود الجنوبية مع السعودية. وقد عبَّرت الرياض، من خلال تبنّي إنشائه، أنها، وبكل وضوح، لن تسمح لهذا التنافس بلوغ حدودها، وهذا ما سبق أن أشار الكاتب إليه في مقاله "حضرموت ثغرة أمنية سعودية"، في "العربي الجديد" (14/10/2022). احتوى المجلسُ كياناتٍ حضرميةً سابقةً له في الوجود، لكنها لم تستطع الوقوف، بصلابةٍ، أمام محاولات فرض نفوذ المجلس الانتقالي الجنوبي في محافظة حضرموت، الذي سعى، عبر تشكيلاته المسلّحة، للسيطرة على المنطقة العسكرية الأولى، الواقعة على الحدود مع السعودية، ونجاحه في استقطاب ممثِّلَ المحافظة في مجلس القيادة الرئاسي، فرج البَحْسني، وفي عقد الدورة السادسة لجمعيته الوطنية، في مدينة المُكلَّا (مركز المحافظة)، في 21 مايو/ أيار، بحضور رئيس المجلس الانتقالي عيدروس الزُّبَيدي، الذي قال، مسترضيًا أبناء حضرموت، إنه سيُطلق اسم "جمهورية حضرموت" على مناطق جنوب البلاد بعد فصلها عن الدولة اليمنية.
لهذا، كانت السعودية مضطرَّة لدعم إنشاء هذا المجلس، إلى جانب دوافع أخرى، تتشارك فيها مع مراكز نفوذ حضرمية داخلية، وأخرى تستوطن السعودية منذ عقود طويلة. ولا يُغفَل، في هذا الشأن، دورُ القوى الدولية الكبرى المنتفعة من الدفع بهذا الكيان إلى الوجود، وانتفاعها منه، كانتفاعها من المجلس الانتقالي الجنوبي الذي تدعمه الإمارات. ومن هذه الدوافع ما يتعلق بدور حضرموت وموقعها من عملية السلام في البلاد، والمفاوضاتِ المرتقبة لحلِّ الأزمة، سلميًّا، التي بدأت أولى خطواتها بالهدنة الإنسانية المعلن عنها في 2 إبريل/ نيسان 2022، وتطوُّر ذلك إلى وصول وفدٍ من جماعة الحوثي إلى السعودية، في وقتٍ أُعلن فيه عن قيام هذا المجلس.
ورغم أنَّ اسم المجلس وإعلان مبادئه لم يتضمّنا ما يشير، صراحةً، إلى نياتٍ انفصالية عن اليمن، إلا أنه أكَّد على أحقيَّة أبناء حضرموت في الاستئثار بإدارة شؤون محافظتهم، سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا، داعيًا إلى تمكينهم من القوات المسلحة وقوات الأمن، في إشارةٍ إلى تطلُّعه إلى استكمال فرض نموذج قوات النخبة الحضرمية في مناطق انتشار قوات المنطقة العسكرية الأولى التابعة للحكومة، شمالي حضرموت، أُسوةً بالمناطق الساحلية التي تسيطر عليها قوات النخبة الحضرمية، وهو مسلكٌ انفصاليٌّ مبكِّر، لا يختلف عن الواقع الذي يمارسه المجلس الانتقالي الجنوبي، في مناطق نفوذه، بمحافظات عدن، ولحج، والضالع، وأبْيَن، في ظل تعثُّر إعادة توحيد القوات المسلحة ضمن هياكل وزارة الدفاع. الخطورة الكبرى من إنشاء هذا المجلس أنه كشفٌ مبكِّرٌ لترتيبات جيوسياسية سعودية، تستهدف الجغرافيا اليمنية، بغية الوصول المباشر إلى بحر العرب والمحيط الهندي. وهذا ما يؤكّده سلوكُ مقرّبين سعوديين من مراكز القرار في بلادهم، في أثناء نقاشاتهم السياسية، والفكرية، وتناولاتهم الإعلامية، بشأن حضرموت، وأنها تمثِّل الجزءَ الجيوسياسي والجغرافي، المفقود من السعودية، الذي حال دون وصولها الحُر إلى المحيط الهندي.
كثيرون ممن أيَّدوا قيام هذا المجلس لا يعُون خطورة الأبعاد السعودية، ويعي بعض منهم ذلك، لكنهم يُرجئون مواقفهم منها إلى رهانات المستقبل، ويعتقدون أنَّ الظرف الراهن يفرض القبول بالمجلس، ما دامت السعودية وراءه، وأنَّ ذلك يمثِّل الفرصة الوحيدة المُتاحة لإحباط مشروع الانفصال الذي يتبنّاه المجلس الانتقالي الجنوبي، والخطوة الأولى والأنسب لقمع أطماع الإمارات في حضرموت والجنوب عمومًا. لا يمكن احتساب إنشاء المجلس تجسيدًا حقيقيًّا لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل عام 2014، في أنه خطوة لتعزيز مشروع دولة الأقاليم، لأن ذلك مسألة سابقة لأوانها، ما دامت مفاوضات السلام لم تبدأ بعد، ولم تتّضح معالمها الأولية بشأن هذه الأقاليم، والتي كان الخلاف بشأنها مع جماعة الحوثي، والرئيس السابق علي عبد الله صالح، سببًا رئيسًا لنشوب الحرب. لو فرضنا، جدلًا، أن إنشاء المجلس يُعَد فرضًا قسريًّا لإقليم حضرموت، فذلك يُعَد مؤشِّرَ خطرٍ على استهداف سلامة اليمن، ووحدة أراضيه، ذلك أنَّ الإقليم لا يقتصر على محافظة حضرموت، بل يشمل محافظات شبوة، والمَهرة، وأرخبيل سُقَطْرى، التي تتمثِّل مساحتها مجتمعةً نحو 44% من مساحة البلاد. وبهذا، يمكن فهم تصاعد النفوذ السعودي في هذه المحافظات، والحضور المقيّد فيها للمجلس الانتقالي الجنوبي، والحكومة المعترف بها دوليًّا. في كل الأحوال، لا تزال القوى الوطنية والوحدوية حاضرة، وإنْ بدت مجهدة، ولن تترُك لسيناريوهات التمزيق أن تتحقّق، وهذا ما أكّدته السنوات الثماني من الحرب.
*العربي الجديد