تلعب المسارات الانتقالية في الحروب دوراً مركزياً في التهيئة لاستئناف العملية السياسية بين الفرقاء، وذلك من خلال تكييف آلياتها لإيجاد شروط واقع انتقالي يتجاوز الحالة الصِراعية، ليُبنى عليه لتعزيز الخيار السياسي، بيد أنّ المسارات الانتقالية التي قطعتها الحرب في اليمن، وفُرضَت نتيجة التحوّلات الإقليمية والدولية، شكّلت، بحد ذاتها، عوامل إعاقة إضافية لوقف الحرب، ومن ثم منحتها زخماً للاستمرارية، إذ أوجدت ظروف تمكين سياسية وعسكرية، ومن ثم تفاوضية، لأطراف الصراع، وأعادت، وفق نتائجها، ترتيب مراكز القوى جغرافياً وسياسياً، بما في ذلك منح المتصارعين أوراقاً جديدة لتحقيق مكاسب غير مشروطة، فمن تشكيل سلطة المجلس الرئاسي في إبريل/ نيسان الماضي إلى خيار تجديد الهدنة الإنسانية الذي تعوّل عليه القوى الدولية في العام الحالي حلّاً وحيداً لإدارة الحرب في اليمن، تراوح الحرب مكانها، بلا أفق للحل، مقابل تأبيد معاناة اليمنيين.
يفتقر الوضع اليمني الحالي، على كلّ المستويات، إلى ما يمكن أن يُطلق عليها شروط بيئة انتقالية تنقل بموجبها الصراع إلى مرحلة تطبيع الأوضاع بين الفرقاء، إذ ما زالت بنية الصراع متجذّرة، وذلك بفعل إدارة القوى الدولية والإقليمية للحرب في اليمن بطريقةٍ اجتزائيةٍ تعكس رغبتها في تأمين مصالحها. ومع أنّ الخيارات الانتقالية التي لجأت إليها كانت خيارات انتقالية، على الأقل في غاياتها السياسية، فإنها أفضت إلى تعقيد المشهد السياسي، ومن ثم العسكري، إذ عوّلت على إعادة توزيع القوة بين المتصارعين، بهدف تحقيق توازن سياسي يستبق عملية استئناف العملية السياسية. وإذا كان تشكيل سلطة المجلس الرئاسي، الذي كان خياراً انتقالياً للقوى الإقليمية المتدخلة، لترتيب سلطة وكلائهم، قد هدف إلى خفض الصراع البيني، وتحقيق توازن سياسي في معسكر خصوم جماعة الحوثي، فإنّه أنتج مستويات من القوة متفاوته سياسياً وعسكرياً بين المتنافسين، إلى جانب استمرار اختلال القوة لصالح الجماعة.
ومن جهة أخرى، لم تُفضِ طريقة إدارة المجتمع الدولي والأطراف المحلية لمسارات ستة أشهر من الهدنات الإنسانية في العام الماضي إلى تهدئة عسكرية شاملة، حيث تركّزت خطوط المواجهات في نقاط التماس الجغرافي بين المتقاتلين، مع توقّف هجمات جماعة الحوثي في العمق السعودي، ومن ثم أدت نتائج الهدنات السابقة إلى تثبيت الخريطة السياسية للصراع بين القوى الرئيسية، مقابل دفع القوى المتنافسة في سلطة المجلس الرئاسي لتوسيع سلطتها جغرافياً في المناطق المحرّرة، ومن ثم لم تحقق الهدنة تقارباً سياسياً بين الفرقاء المحليين، أو على الأقل خفض حالة العداء بين الطرفين، ومن ثم قوّضت إمكانية البناء على مخرجاتها لاستئناف العملية السياسية، مقابل تركّز الجهود الأممية والدولية في تحريك القنوات السياسية غير المباشرة بين السعودية وجماعة الحوثي، إلى جانب تخفيض العداء بين السعودية وإيران. وإذا كان السياق الإنساني للهدنة العنوان الأبرز لها، فإنّها مكّنت الفرقاء المحليين من توظيف الجانب الانساني لتعزيز مكاسبهم الاقتصادية، فيما فشلت في تحقيق اختراقٍ في ملفات إنسانية مهمة، من إطلاق سراح المعتقلين والأسرى في سجون الفرقاء، إلى فتح المنافذ البرّية لبعض المدن اليمنية التي لا تزال مغلقة أمام حركة المدنيين. على أنّ الأهم، أنّ إدارة الهدنة أنتجت أزمة أكثر تعقيداً، وذلك ليس فقط إخضاعها لأهداف الأطراف المتصارعة، وتحويل تمديدها إلى ورقة ضغط لتحقيق مكاسب إضافية، بل كرّست اختلال توازن القوة بين المتصارعين، مقابل الدفع باتجاه تصعيد معركة السيطرة على الثروات النفطية، فضلاً عن تجدّد الحرب الاقتصادية البينية سلاحاً في معركة الحرب والهدنة.
عسكرياً، ثمّ سياسياً، وبالتالي تفاوضياً، تفاوت توزيع القوة بين الفرقاء المحليين تبعاً لمسارات الحرب، وقبلها لإدارة القوى الدولية والإقليمية خياراتها الانتقالية في اليمن، وإن كان ذلك قد ضمن لجماعة الحوثي المدعومة من إيران تعزيز مركزها قوة رئيسية في الصراع، ومن ثم في العملية التفاوضية، إذ إنّ افتقار القوى الدولية عملياً إلى أوراق ضغط فاعلة على الجماعة تجبرها على قبول شروط الهدنة الموسعة أو على الأقل المضي في استمرار بقاء الحرب عند مستوى الصراع المحلي، مقابل تأمين العمق السعودي يجعل من الجماعة الطرف الذي يُملي شروطه، إذ تراهن، كعادتها، على خيار فرض القوة، وذلك بتهديدها باستئناف التصعيد العسكري إلى حربٍ شاملة، بما في ذلك استئناف الهجمات العابرة للحدود أو على الأقل إقلاق السعودية، والتعويل على ذلك بوصفها ورقة ضغط، مقابل إدارة المنحى التفاوضي لتجديد الهدنة رسمياً على الأقل، بما يلائم خياراتها الحالية، وأيضاً يدعم تماسك جبهتها الداخلية التي تعاني من تشظٍّ سياسي. لذلك تتمسّك بمطالبها في دفع رواتب موظفي الدولة في المناطق الخاضعة لها من عائدات النفط والغاز، خلافاً لاتفاقية استوكهولم التي تنصّ على دفع رواتب الموظفين من عائدات سفن الوقود في موانئ الحديدة.
ومع فشل جهود الوساطة العُمانية أخيراً التي كان يعوّل عليها في إقناع الجماعة بتأجيل بند الرواتب إلى مرحلة مستقبلية مقابل امتيازاتٍ أخرى، فإنّ الجماعة، مع مضيّها في القنوات التفاوضية لانتزاع مكاسب جديدة، ترتّب لجولة واسعة من الحرب، وهو الخيار الملائم بالنسبة إليها، على الأقل لامتصاص حالة الغضب الشعبي في المناطق الخاضعة لها، إذ ضاعفت تحشيدها العسكري، واستدعاء مقاتليها للجبهات، ودفع أنصارها إلى تسيير تظاهرات تفويض لاستئناف الحرب الشاملة والسيطرة على الموارد، ومن ثم جعل الاقتصاد النفطي في محكّ عملية الصراع أو التفاوض غير المباشر، إلى جانب تصعيد القتال في عدد من الجبهات في الأشهر الأخيرة. ومع أنّ الجماعة لم تستأنف هجماتها على السعودية، فقد تجدّدت المناوشات في جبهة صعدة الحدودية، وتزايد القصف المدفعي السعودي في اتجاه الأراضي اليمنية بشكل متكرّر، أوقع قتلى وإصابات في صفوف المدنيين اليمنيين، وفي صفوف لاجئين أفارقة. وفيما تحرص الجماعة على تغيير معادلة إدارة الثروات النفطية، سياسياً بالضغط على المجتمع الدولي لتجديد الهدنة وفق شروطها، أو عسكرياً باستئناف هجماتها على مناطق الثروات، بما في ذلك استهداف سفن نقل المشقّات النفطية للسيطرة على أزماتها الاقتصادية، فإنه لا يمكن التكهن بقدرتها على اتنزاع تنازلاتٍ جديدةٍ من خصومها.
تتموضع سلطة المجلس الرئاسي في الطرف الأضعف من المعادلة العسكرية، ومن ثم السياسية وأيضاً التفاوضية، وهو ما يصبّ في صالح جماعة الحوثي. فعلى الرغم من الدعمين، السعودي والإماراتي، وأيضاً دعم المجتمع الدولي، للمجلس الرئاسي، فإنّ فشله في إدارة المناطق الخاضعة له، بما في ذلك تحسين شروط حياة المواطنين، جعله فاقداً القدرة على إدارة علاقة متكافئة مع الجماعة، إلى جانب فشله في تجاوز أزماته البينية كسلطة توافقية، مقابل استمرار حالة التنافس بين القوى السياسية المسلحة التي تتحرّك خارج سلطة المجلس الرئاسي. ومع أنّ المجلس الرئاسي يعوّل على تجديد الهدنة لتجنّب كلفة حرب شاملة مع مقاتلي الجماعة، وأيضاً لضمان أمن حليفه السعودي، فإنّ معركة السيطرة على معادلة الثروات النفطية التي تديرها الجماعة لصالحها تشكّل عبئاً إضافياً على المجلس الرئاسي، اقتصادياً وسياسياً أيضاً، إذ أفضت هجمات الجماعة على موانئ تصدير النفط نهاية العام الماضي إلى تكبّد المجلس خسائر اقتصادية إضافية، إذ تضاعفت مخاوف الشركات الأجنبية من عدم قدرتها على تأمين نقلها النفط. وقد أضرّ ذلك بالاقتصاد النفطي، ومن ثم نقص السيولة من العملات الأجنبية، ما ترتب عنه، بحسب إعلان الحكومة المعترف بها، عجزها عن تغطية نفقاتها، وربما تسديد رواتب الموظفين في مناطقها. ولذلك، بدا أنّ الخيار المتاح أمامها هو الدفع باتجاه حرب اقتصادية ضد الجماعة، أو على الأقل تضييق الخيارات عليها، إذ أعلن البنك المركزي التابع للحكومة، أخيراً، قائمةً سوداء، أدرج بها عدد من الشركات الموالية للجماعة، التي تعمل في مناطقها ووضعها تحت طائلة المساءلة القانونية. ومع أنّ حالة فساد المجلس الرئاسي، إلى جانب فشله في السيطرة على الوضع الاقتصادي المتردّي في المناطق الخاضعة له، بما في ذلك التلاعب بعقود القطاع النفطي، تجعله غير مؤهلٍ، لا سياسياً ولا سلطوياً، لإدارة معركة اقتصادية ضد خصمه، فضلاً عن عجزه عن تجفيف موارد الجماعة، فإنّ من الجيّد ادعاء القوة في مواجهة خصم مقامر.
في كلّ الحالات، وأيّاً كان السيناريو الذي ستتجه إليه اليمن هذا العام، والذي سيخضع، في النهاية، لحسابات المجتمع الدولي والقوى الإقليمية المتدخلة، فإنّ المعطيات الحالية تشي بأن كل طرفٍ يستعد لترتيب أوراقه لإدارة معركته المقبلة، التي تعني، في كلّ الأحوال، مضاعفة معاناة اليمنيين الذين لم تتحسّن أوضاعهم في زمن هدناتٍ كانت لصالح الأقوياء، وإن كان الذهاب باتجاه دورة جديدة من حربٍ شاملةٍ ستدخل عامها التاسع قريباً، يعني مجدّداً كابوس العيش في الجحيم اليمني.
*العربي الجديد