السياسة القهرية التي اتبعتها سلطات الحرب في اليمن، لإفقار اليمنيين، إلى جانب إدارتها معادلة الثروة لصالحها، أنتجت تمايزات اقتصادية واجتماعية وسياسية، بين مجتمعات العوز التي تشمل اليمنيين ومجتمع الرفاه الذي يزدهر يوماً بعد آخر، ففي حين أدّت مركزة سلطات الحرب والشبكات التابعة لها الثروات وموارد الدولة وأموال المانحين إلى تجذير مجتمع الرفاه المشكل من طبقات أغنياء الحرب التي أصبحت مجتمعا قائماً بذاته له أنماط حياته ومؤسّساته الخاصة، فإنه قد فرض على اليمنيين تحمّل كلفة الحرب وتبعاتها من فقدان مورد الرزق والنزوح إلى انقسام المنظومة الاقتصادية وأشكال الضرائب والإتاوات المفروضة عليهم، بحيث جعلهم يعيشون عند مستويات الفقر وما دونها. وإذا كان مجتمع الرفاه من أغنياء الحرب، على اختلاف تموضعاتهم السياسية، قد حققوا من خلال ثرائهم غير المشروع رفاهية الحياة، بما في ذلك البقاء قوى مهيمنة في الوقت الحالي، فإنهم أيضاً سيضمنون مستقبلا أكثر رخاء في مرحلة ما بعد الحرب، إلا أن الآثار الكارثية للحرب على حياة اليمنيين ستمتد إلى المستقبل الذي ربما يكون أكثر بؤسا.
يشكّل نمط الحياة ونوعيته وفضاؤه المكاني، بما في ذلك الوسائل الاقتصادية التي يلجأ لها اليمنيون لتسيير سبل حياتهم، المعيار الذي يحدّد مستويات معيشتهم، وبالتالي وضعهم الاجتماعي، ومع أن تبعات الحرب قد أثرت على نواحي الحياة، بحيث حدّدت، إلى حد كبير، نمط الحياة المتاح أمام معظم اليمنيين، فإن الخضوع لشروط العوز اليومي شكّل الملامح العامة لمجتمعات العوز، أي المراوحة بين امتلاك الحد الأدنى من الوسائل الاقتصادية وعدم امتلاكها، ففي حين تسبّب تدهور الأوضاع الاقتصادية في قلب النظام الاجتماعي، وذلك بدفع نطاقات واسعة من المجتمع إلى خط الفقر، بحيث أثّر على أنماط حياتهم، بما في ذلك تأثير انهيار الدولة بحرمانهم من خدماتها المجانية، سواء في الجانب الصحي أو التعليمي وغيرهما، فإن مجتمعات العوز باتت في ظل البيئة القاهرة وشروطها المستدامة تتوسّع، بحيث شملت شرائح اجتماعية عديدة بنطاقاتها المدنية والريفية والجغرافية المختلفة. وفي حين تتماثل العوامل الاقتصادية العامة في المناطق الخاضعة للمجلس الرئاسي والمناطق الخاضعة لجماعة الحوثي، والتي تحدّد الخيارات الحياتية لمجتمعات العوز، وإن كانت الظروف المعيشية أكثر قساوة في مناطق الجماعة، فإن عوامل أخرى أسهمت في تمايز مجتمعات العوز، سواء من حيث نمط حياتها ووسائلها الاقتصادية واعتمادها على الرئات البديلة لإسنادها، وتأثير بيئة الحرب وقواها عليها، إلى جانب تباين تأثيرها على محيطها الحيوي، فضلاً عن تأثير هذه العوامل على خياراتها الحياتية المستقبلية، وإن كانت مجتمعات العوز المتعدّدة تخضع وفقا لذلك لشروط مختلفة، وهو ما يجعلها مجتمعات عوز مؤقتة أو دائمة.
لأجل الحفاظ على الحد الأدنى من نمط حياتهم السابقة، انخرط البعض من الطبقة الوسطى في شبكات الحرب
لاستقرار الطبقة الوسطى وازدهارها أهمية محورية في تثبيت النظام الاجتماعي، وأيضاً في تجديد المجتمع ومدّه بطاقة تغييرية، وإذا كان انهيار الطبقة الوسطى في اليمن، على اختلاف شرائحها الاجتماعية، من النتائج الأكثر كلفة للحرب والتي ستؤثر على مستقبل اليمن، فإن تحوّلها من قوة مجتمعية تغييرية إلى أحد مجتمعات العوز، يمثل تحوّلاً تاريخياً في سياق النكبات التي يعيشها اليمنيون، إذ خضعت الطبقة الوسطى جرّاء الحرب وتبعاتها الاقتصادية لتحولات قسرية انعكست سلبا على مستوى معيشتها، إذ كيّفت حياتها مع وسائل اقتصادية بديلة، وأحيانا تتعارض مع تقاليدها المهنية ومرجعياتها الثقافية، بحيث غيّر ذلك من نمط حياتها، إلى جانب التجريف الذي تعرضت له من قوى الحرب، والذي دفع شرائح منها إلى تغيير بيئتها، بما في ذلك هجرة قطاعات منها إلى خارج اليمن، فيما ظلت الشرائح الأخرى تخضع لشروط الفقر، بحيث فقدت قدرتها على التأثير على محيطها، بما في ذلك دورها التنويري بالنسبة لشريحة المثقفين. ومع أن من الصعب حصر التحوّلات التي خضعت لها الطبقة الوسطى، بمختلف شرائحها، بما في ذلك اختلاف مآلاتها من منطقة يمنية إلى أخرى، بحسب طبيعة الظروف وأدوات سلطة الحرب والعوامل الاقتصادية التي خضعت لها، بما في ذلك تغيّر حركة انتقالها الجغرافي، فإنها تظلّ، إلى حد ما، عرضة للاستقطاب السياسي أو على الأقل التوظيف من سلطات الحرب، إذ إنها، ولأجل الحفاظ على الحد الأدنى من نمط حياتها السابقة، قد تنخرط في شبكات الحرب، وقد يتحوّل قادتها من المثقفين إلى أداة سياسية لدعم أطراف الحرب، إلا أنها، وبشكل عام، فقدت شروط حياتها المستقرّة ومن ثم استقلاليتها السياسية، إلى جانب تحوّل قطاعات واسعة منها عن مهنتها التقليدية، مقابل اعتمادها على بدائل اقتصادية من قنوات التكافل الاجتماعي، كالتحويلات المالية، إلى الاعتماد على المنظمات الإغاثية لتسيير حياتها.
ويمثل موظفو الدولة في المناطق الخاضعة لجماعة الحوثي مثالاً حيوياً على التحولات القسرية التي خضعت لها الطبقة الوسطى، فجرّاء وقف رواتب أكثر من مليون موظف طوال سنوات الحرب، فقد هؤلاء وسائلهم الاقتصادية المستقرّة، وهو ما انعكس على نمط حياتهم، إلى جانب خضوعهم للسياسة الاقتصادية العقابية التي تفرضها الجماعة، بحيث لجأت قطاعات واسعة من موظفي الدولة إلى تغيير مهنها الوظيفية، مع الاعتماد على البدائل الاقتصادية، ومن ثم تحوّل موظفو الدولة، على اختلاف قطاعاتها، بما في ذلك الأكاديميون في الجامعات الحكومية وأساتذة المدارس الحكومية، أي قوى التنوير، إلى قوى معطّلة تخضع لشروط العوز وبيئتها القهرية.
الطبقات الضعيفة والهشّة التي لا تمتلك وسائل الحماية الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي السياسية، هي الأكثر تضرّراً في المنعطفات الحادّة التي يعيشها اليمن
الطبقات الضعيفة والهشّة التي لا تمتلك وسائل الحماية الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي السياسية، هي الأكثر تضرّراً في المنعطفات الحادّة التي يعيشها اليمن. ولهذه الأسباب، ولأسباب بنيوية أخرى، تعدّ الشرائح الفقيرة القوام الرئيسي لمجتمعات العوز، إذ إنها عرضة أكثر من غيرها لتأثير الصراع وتبعاته من انهيار خدمات الدولة إلى الأوضاع الاقتصادية المستمرّة في التدهور، إذ إن وسائلها الاقتصادية المحدودة، والتي كانت تدرّ عليها أجراً مؤقتاً، وتجعلها تعيش الحد الأدنى من شروط الحياة الآدمية، فقدت قدرتها الشرائية مع استمرار ارتفاع كلفة الحياة المعيشية من الغذاء إلى السكن، في ظل السياسات الاقتصادية التي تتبعها سلطات الحرب، إلى جانب تضرّرها بغياب خدمات الدولة التي كانت تعتمد عليها بدرجة رئيسية سواء في الجانب الصحي أو التعليمي بما في ذلك الكهرباء، بحيث انكفأ نمط حياتها اليومي عند حد العوز المستمر.
ومع أن الظروف المعيشية القاهرة دفعت قطاعات واسعة من الشرائح الفقيرة إلى مغادرة المدن التي كانت تعيش فيها لارتفاع كلفة الحياة، بحيث عادت إلى الريف أو سكنت في أطراف المدن، وما يعنيه ذلك من تغير ديموغرافي وثقافي واجتماعي مصاحب لعملية الانتقال، فإن ذلك لم يحسّن شروط حياتها التي لا زالت عند حد العوز، معتمدةً، بدرجة رئيسية، على أشكال المساعدات من منظمات الإغاثة وفاعلي الخير لضمان الغذاء، ومن ثم تخضع لشروط عوز أقسى يوما بعد آخر، إلى جانب أن أوضاعها القاهرة أجبرتها على اخراج أطفالها من المدارس، وهو ما يعني حرمانهم من مستقبل أفضل، الأمر الذي يجعل الشرائح الفقيرة المتنامية قوة اجتماعية معطلة، ومن ثم خارج دائرة التأثير المجتمعي والسياسي، وإن كانت كالعادة قوة يتم استغلالها سياسيا. وإذا كانت النسبة الغالبة من المجتمع اليمني هي مجتمعات العوز، فإن المستقبل يعني استدامة أسباب البؤس، من شريحة العمال الذين يعتمدون على أجر لا يتعدّى دولارين في اليوم في المناطق الخاضعة للجماعة مثلا، إلى المزارعين الذين يواجهون تحدّيات الحرب إلى تحدّيات التغيير المناخي، بحيث فقدوا أدوات رزقهم، إلى فئة العسكر في القطاع العسكري والأمني للدولة، والذين فقدوا رواتبهم، وتحوّلوا إلى مهن اخرى، بما في ذلك انخراطهم في جبهات الحرب مقابل الحصول على سلّة غذائية، ومن ثم فإن مجتمعات العوز من الطبقات الفقيرة قوى مستبعدة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، تواجه وضعا مأساويا، قد يمتدّ إلى مستقبلها.
مثلت جموع النازحين إلى المدن شريحة متنامية، من النازحين المؤقتين أو الدائمين
جعلت مسارات الحرب وتبعاتها الاقتصادية جموع النازحين داخلياً الذين يتعدّون الأربعة ملايين يمني مجتمعاً مثالياً للعوز، ببنيته وأدواته ومستقبله أيضاً، إذ يستتبع الانتقال من الموطن الأصلي إلى منطقة أخرى تغيير نمط الحياة بالنسبة للنازحين، إلى جانب تغيير الأدوات الاقتصادية والبيئة الاجتماعية، بحيث يؤثّر ذلك على خياراتهم في الحياة وعلى مستقبل أبنائهم، وفي حين تتنوّع مجتمعات النازحين تبعا لشرائحها المجتمعية، وإن ضمّت بشكل رئيس الوسطى والدنيا، وتباين ثقافتها ودرجة تكيفها مع المجتمع المضيف، تختلف أيضا شروط العوز وأنماط حياتهم، فمن جهة، شكّلت الأرياف بؤرا للنزوح الدائم أو المؤقت بالنسبة لنازحين كثيرين، بحيث خضعوا لشروط عوز مختلفة، بما في ذلك شحّ الموارد في الأرياف وغياب فرص العمل، بحيث اعتمدت على طرق المجتمع المضيف إلى جانب المساعدات الإغاثية.
ومن جهة أخرى، مثلت جموع النازحين إلى المدن شريحة متنامية، من النازحين المؤقتين أو الدائمين، وهم أيضا يخضعون لشروط حياتية قاسية تختلف من مدينة إلى أخرى، تبعا لأدواتهم الاقتصادية، وإن اقتضت، كالعادة، تغيير مهنهم السابقة، معتمدة بدرجة رئيسية على المساعدات الإغاثية من المنظمات وفاعلي الخير. كما تختلف درجة اندماجهم وتكيفهم مع البيئة المضيفة، بيد أن الشريحة العظمى من النازحين هم من الطبقات الفقيرة، وهو ما يجعلها قوىً معطّلة ومستغلة من قوى الحرب، ومستبعدة، إلى جانب حرمان أبنائها من التعليم، مما يعني أن شروط العوز والتجهيل يحكم مستقبلها، إلى جانب جموع النازحين في المدن، تمثل مخيمات النازحين هامش مجتمعات العوز، إذ إن أوضاعها الإنسانية أقسى من حياة الطبقات الفقيرة، فإضافة إلى حالة العوز الحادّة التي يخضعون لها، فإنهم يعتمدون على المساعدات التي تقدّمها المنظمات الإنسانية، ومن ثم تكيّف حياتها وفقها وتتأثر بخفضها، كما أن استقرارهم في مناطق معزولة في مخيمات خارج المدن أو على أطرافها تجعلهم معزولين اجتماعيا، أي يفتقدون محيطا مجتمعيا تكافليا، وأيضا إنسانيا وثقافيا يمكن أن يدعمهم، كما يواجهون محيطا بيئيا قاسيا يتأثر بتقلبات المناخ الذي يتسبّب في مواسم المطر والشتاء والحرائق بتدمير مخيماتهم وبوفيات عديدة، إضافة إلى أن مكان سكنهم في الأطراف النائية يجعلهم محرومين من المساعدات الصحية على شحّها وتعليم أطفالهم، إلى جانب تجاربهم النفسية، كجماعات هربت من الصراع. وفي أحيان كثيرة، نزحت أكثر من مرّة، بحيث تفتقر لعوامل استقرار، حتى لو كانت مؤقتة تمكّنها من تطبيع حياتها، وإنْ وفق شروط العوز وفي هامش الحياة.
* نقلا عن العربي الجديد