توجّه الهوية الدينية للجماعات والأحزاب الدينية أدواتها بغرض السيطرة على المجال الاجتماعي وإخضاعه لمقولاتها، إذ تكيّف مبدأ التمكين والاستخلاف الذي يمثل عصب نظرياتها في الحكم والسلطة رؤيةً ومنهجاً في غايات السيطرة والإخضاع، فمع تباين وسائلها من الخيار الراديكالي إلى السياسي، فإن الجماعات والأحزاب الدينية، على اختلاف مذاهبها، تستلهم من تراثها اللامادي الماضوي إطاراً مفاهيمياً ومؤسّسياً لإدارة الدولة والمجتمع، مقابل إزاحة البُنى الوطنية المدنية ومرجعيتها القانونية. وتمثل جماعة الحوثي في اليمن نموذجاً للمنحى الراديكالي الذي تذهب إليه الجماعات الدينية التي أصبحت سلطة أمر واقع، إذ تعكس سلطتها بنيوياً وأداتياً أيديولوجيتها المذهبية، التي تجلّت في إدارة الدولة والمجتمع، بحيث فرضت هويتها المذهبية على المجالين، العام والشخصي. ففي مقابل تقويض المشترك الوطني من البنى المؤسسية والقيمية، شكّل إخضاع المجتمع محور سياساتها الهوياتية التي تجلت، أخيراً، بفرض "مدوّنة السلوك الوظيفي" على موظفي الدولة.
تنتج الهوية الدينية على الإطلاق محمولاتها التمييزية تجاه المجتمع بدرجة رئيسية، بحيث تولد انتهاكات جسيمة، وهو ما يتمظهر في إدارة جماعة الحوثي سلطتها وأشكال الهيمنات والإخضاع التي تفرضها على المجتمع، إذ يحكم مبدأ "الولاية" التي تستمد منه جماعة الحوثي، القادمة من الوسط الزيدي، مشروعية تسيدها على السلطة، أداءها، فقد عكسته في بنية السلطة التي نُزعَت من سياقها المدني إلى الديني، بحيث أصبحت السلطة هي الجماعة بأجنحتها المتعدّدة وبمحمولاتها الطائفية التي فرضت على مظاهر الحياة اليومية ومؤسّساتها، ابتداءً بأجهزة الجماعة التي قامت على تقويض مؤسّسات الدولة، واستثمار ما بقي منها لصالحها إلى فرض "الخُمس" (ركيزة الاقتصاد الشيعي) على الحياة التجارية وعلى المواطنين، إذ يعكس النظام الاقتصادي الذي تكرّسه الجماعة مضامين تمييزية، تتجاوز نهب أموال اليمنيين لصالحها، إلى إنتاج تراتبية اجتماعية جديدة، تتحدّد بين طبقة دينية تمثلها الجماعة تمنح نفسها الحق، بناءً على تحيّزات مذهبية في امتصاص خيرات الآخرين، وبين مجموع من المستعبدين من دائرة السلطة والثروة والمواطنية أيضاً،
ومن ثم، وتبعاً لنظرية الحكم التي تتبنّاها جماعة الحوثي، يصبح المواطنون مجرّد رعايا، يحصلون بموجب تفضلاتها على المكرمات أو على العسف، مقابل استبدال الدستور بقوانينها الطائفية، تدعمها في سياسة تثبيت سلطتها الطائفية انزياحات ولدتها الحرب، إذ إن تصدّعات المركز الزيدي في السلطة، نتيجة تنازعها بين أطراف متنافسة ومتصارعة، مكّنت الجماعة من استثمار غياب بديل متفق عليه، بحيث احتكرت تمثيل النطاقات الزيدية، حتى مع ظهور صراعاتٍ بينيةٍ وتململاتٍ من احتكارها السلطة، فإن بيئة الحرب التي أنتجت صراعاً اتخذ، في المراحل الأولى، سمة مذهبية، دفع القوى الزيدية البارزة، ولكن المتذبذبة، إلى إسناد الجماعة لضمان بقاء السلطة في الدائرة الزيدية، إضافة إلى التصدّعات المذهبية التي عملت الجماعة على استثمارها في مناطق المواجهات، فضلاً عن أن الحرب المؤقلمة منحتها سنداً لمأسسة سلطتها الطائفية، فإضافة إلى القوى الإقليمية الداعمة لخصومها، الذين عملوا على تنمية صراعاتٍ بين وكلائهم، وهو ما أفضى إلى استقرار سلطة الجماعة، فإن تحوّلها إلى وكيل محلي لإيران منحها مكاسب متعدّدة، من الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي، والأهم استلهام التجارب الهوياتية والمذهبية في إدارة المجتمع من إيران ووكلائها في المنطقة، بحيث عكسته الجماعة في اشتغالاتٍ ممنهجة وقوانين تستهدف فرض هويتها المذهبية وتعميمها على الرعايا.
تتبدّى السياسة الهوياتية التي تعمل جماعة الحوثي على فرضها قسراً على الدولة والمجتمع في مستويات عديدة، بحيث تحقّق غايتها النهائية في إعادة تشكيل المجتمع. ففي مستوى السلطة وإدارة الدولة، تتجلى سياسات الهوية في حصر التعيين في المناصب العليا على دائرتها الضيقة من الأسر الهاشمية، مع تمثيلٍ محدودٍ للقوى المتحالفة معها، ويخضع لمدى ولائها العقائدي للجماعة، مقابل تغيير هكيل الكادر الوظيفي في مؤسّسات الدولة، نجم عن ذلك ليس فقط إفساد الوظيفة العامة، بل صبغها بطابع طائفي، إلى جانب فرض الدورات الثقافية التي تشكّل عماد سياسة الهوية الاجتماعية للجماعة على موظفي الدولة، وهو ما يعني أدلجة قطاعاتٍ من الموظفين، يضاف إلى ذلك نزع حيادية الدولة، ككيان بلا هوية عبر أسلمتها، بفرض التقويم الهجري على المرافق العامة. ومن جهة أخرى، تسخير موارد الدولة لاحتفالاتها الدينية، مقابل تجريم الاحتفال بالأعياد الوطنية، وهو ما يعني تجريف الهوية الوطنية للدولة والمجتمع، واستبدالها بهوية الجماعة.
وفي ظل سلطة طائفية تشتغل وفق قواعد الهيمنة والإخضاع، لا احترام للمذاهب والعقائد الأخرى، وتصبح الوزارات جهازاً رديفاً لفرض همينتها، من هيئات الأوقاف والزكاة التي استثمرت المجال الديني، بشقّيه الدعوي والاقتصادي، لصالح الجماعة، وكذا قطاعات الدولة الإعلامية والثقافية والتربوية، إذ أصبحت وزارة التربية والتعليم أداة لتكريس هوية الجماعة من إحلال عناصرها في المدارس والجامعات، واستُبدِلَت المناهج الحكومية بمناهج طائفية تعلي من شأن معتقداتها المذهبية في مقابل شطب القيم الوطنية الجامعة ورموزها من المناهج. وبالتالي فرض مناهج طائفية موجّهة إلى إفساد أجيال جديدة من اليمنيين. وإذا كانت أشكال السياسات المجتمعية التي تستخدم فيها الجماعة سلطتها قد صبغت الحياة العامة بصبغة طائفية، فإن استثمار المجالين، الديني والدعوي، يمثل أيضاً ملمحاً بارزاً لسياسة الجماعة، من فرض خطب زعيمها في منابر المساجد، إلى إخضاع الجوامع لدعاتها. تتوازى مع ذلك إعادة تشكيل ذهنية الأطفال من خلال المراكز الصيفية التي يتم فيها ليس فقط إنتاج مقاتلين أطفال، بل تخريج عقائديين يعادون المجتمع. في المقابل، تترادف سياسة الهوية الإيمانية التي تفرضها سلطة الجماعة على المرأة مع الولاية الذكورية، بحيث تجرّدها من حقوقها بوصفها كائناً مستقلاً، من منعها من العمل في قطاعات متعدّدة، إلى فرض المُحرم، أخيراً، شرطاً لسفرها، ما يعني تقييد حرية تنقلها، وحرمانها العمل، ومن ثم سلبها أبسط حقوقها الآدمية، ومن ثم راكمت الجماعة سياساتها الهوياتية، لتكريس هيمنتها المذهبية، بحيث اتجهت إلى فرض مدوّنة إلزامية سلوكية بمحدّدات مذهبية على موظفي الدولة.
في جميع التجارب المؤسسية الخاصة والعامة، تفرض المدوّنات الوظيفية لضمان أهداف مشتركة، للمؤسسة وأيضاً للموظف، بحيث تشمل مدوّنة السلوك مبادئ عامة في إطار الواجبات والحقوق، بما يؤدّي إلى رفع مستوى الإنتاجية وتحسين شروط العمل، وضمان حقوق الموظفين، ومن ثم تأكيد حيادية الوظيفة، بما في ذلك عدم تعارض مدوّنة السلوك مع المبادئ الوطنية العامة، بيد أن مدوّنة السلوك الوظيفي التي فرضتها جماعة الحوثي، أخيراً، على موظفي الدولة تفتقر إلى أدنى المعايير المفاهيمية، وكذلك الحقوقية والواجباتية، بما في ذلك الأخلاقية لمدوّنة سلوك. فإلى جانب تجاهلها حقوق موظفي الدولة التي تنصّ عليها القوانين، وهي حقهم الدستوري في الأجر، قفزت الجماعة على قضية انقطاع رواتب الموطفين، مقابل فرضها اشتراطاتٍ أخرى. ومن جهة ثانية، وفي سياق وظيفي، لم تحدّد مدوّنة الجماعة الواجبات على الموظف والقيام بها لتحسين إنتاجية مؤسسات الدولة، ما يعني أنها لم تهدف في فرضها مدوّنة السلوك إلى تنظيم عمل مؤسّسات الدولة، بل فرض مبادئ مذهبية، إذ تحوي مدوّنة السلوك حزمة من المبادئ العقائدية من الإيمان بولاية الجماعة، كمبدأ يحدّد شرط بقاء الموظفين في وظيفتهم الحكومية، إلى القبول بالهوية الإيمانية للجماعة، بما في ذلك فرض ملازم قياداتها قواعد قيمية تلزم الموظفين باعتناقها، بحيث أدرجت استمارة تلزم الموظفين بتوقيعها، أو خضوعهم للعقاب، ومن ثم عكست مدوّنة السلوك السياسة الهوياتية لجماعة الحوثي، واستغلالها السلطة لفرض هويتها المذهبية على موظفي الدولة. فمن جهة، تتعارض مبادئ المدوّنة مع مبادئ الدستور اليمني وقوانين الخدمة المدنية، بما في ذلك قوانين العمل، بحيث تُعَدّ إجراءً لا دستورياً، ومن ثم غير قانوني، إذ تمثل مبادئ المدوّنة، وبشكل صريح، تعطيلاً للدستور الذي ينظّم علاقة الموظف بمؤسسات الدولة واستبداله بمدونة سلوك مذهبية. ومن جهة ثانية، تعكس المدوّنة عملية فرز اجتماعي خطير، على المستوى المذهبي، انتقل بفضل السياسة الهوياتية للجماعة من قطاعات المجتمع إلى مؤسسات الدولة، وذلك بفرض الإيمان بمذهب الجماعة ومبادئها الدينية، كقانون ملزم يخضع بموجبه المواطنون لتعاليمه. ومن جهة ثالثة، يحوي الشرط الإلزامي الذي فرضته الجماعة على الموظفين بتوقيع المدوّنة، أهدافاً استخباراتية، وذلك بامتلاكها قاعدة بيانات ضخمة في مؤسسات الدولة، تستطيع توظيفها لتجنيد الموظفين أو ترهيبهم. ومن ثم، مدوّنة السلوك الوظيفي تتويج للسياسة الهوياتية للجماعة مقابل تجريد الموظفين من مواطنيتهم ومن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، والأهم حرية اعتقادها، وهو ما يعني ليس فقط تطييف كادر الدولة، بل تحويل الموظفين إلى أجراء مسلوبي الكرامة والحرية العقائدية، يواجهون عسف سلطة مذهبية عمياء وهيمنتها.
*نقلا عن العربي الجديد