طرق باب منزلي في شارع معهد القضاء العالي بالحصبة في العاصمة صنعاء (حامد الأملس) نائب وزير الزراعة الأسبق الذي كان يسكن طابقاً أرضياً مجاوراً بعد لجوئه إلى صنعاء عقب مأساة 13 يناير 1986 ، وألحَّ عليَّ بقبول دعوته لتناول الغداء مع ضيوفه (المهمين).
كان الاملس إبن شبوة رجلاً كريماً نبيلاً شهماً ، لا يكاد يمر أسبوع إلا وتصعد من فناء منزله روائح الذبائح والشواء لضيوفه.
عندما دخلت وتمت دعوتي للجلوس في أعلى المكان فوجئت بوجود أهم القيادات التي نزحت إلى صنعاء قبل وبعد الرئيس (علي ناصر محمد) عقب خسارتهم المعركة مع رفاق الأمس ، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. من لفت انتباهي كان ذلك الرجل القابع في أسفل المكان جالساً القرفصاء ، يلف حزام (الحِبْيَة) حول جسده ، لا يكف عن الضحك والابتسام ، لكنه لا يشارك في الكلام كبقية الحاضرين .
كانت تلك أول مرة أرى فيها عبد ربه منصور هادي مسؤول الإمداد والتموين العسكري خلال عهد الرئيس على ناصر.
ذلك كان في بدايات الأزمة السياسية بين الرئيس الراحل علي عبدالله صالح ونائبه علي سالم البيض العام 1992 ، جاهر بعض الحاضرين بأنه جاهز للمساهمة في مساعدة صالح بكشف بعض الملفات التي تساعد صالح في أزمته مع البيض والاشتراكي.
ثمة تفاصيل أكثر لا يتسع المجال لسردها ولكني سأركز على دور هادي في ما جرى بعد ذلك من الزاوية التي تأملت فيها المشهد.
كان من الواضح أن صالح يدَّخر الكثير من خصوم الاشتراكي ، ليس من جماعة الرئيس ناصر فقط ، ولكن أيضاً من الأفغان اليمنيين والإخوان المسلمين والاسلاميين الآخرين ورجال القبائل المحافظين استعداداً لمعركة توقّع احتياطاً أنها قد تطول بالتزامن مع المعركة العسكرية التي خطط لها بعناية ، حيث كانت من وجهة نظره يجب أن تكون فاصلة.
عندما اندلعت الحرب المشؤومة العام 1994 لم أتوقع أن يكون لهادي ذات الدور الذي لعبه العسكريون إلى جانب صالح أمثال عبدالله علي عليوة وأحمد مساعد حسين ومحمد عبدالله البطاني وغيرهم كثيرين ، لكن هادي على ما يبدو عاد إلى خبرته القديمة في مجال اللوجستيات واقترب كثيراً من (علي محسن الأحمر) في ما أشبه أنه كان غرفة عمليات لإدارة مسرح المواجهة العسكرية عبر محافظة (لحج) باتجاه عدن.
في الواقع أن الحرب لم تكن بين شمال وجنوب اليمن ، بل صراع على السلطة ، فقد كان في معسكر صالح ساسة جنوبيون كثر أمثال محمد سالم باسندوة الذي قاد الدبلوماسية اليمنية خلال الحرب ، وشماليون في المعسكر الآخر أمثال المفكر جار الله عمر.
خلاصة الأمر أن رفقة سلاح وثيقة نشأت بين الرجلين ، الأحمر وهادي خلال وبعد تلك الحرب ، تحول هادي في نهايتها إلى (بطل) ليس بسبب دوره الذي لا يزيد أهمية عن دور العسكريين الجنوبيين الآخرين ولكن بسبب أنه كان قريباً في العمل مع الأحمر الذراع الأيمن لصالح ، وهو الذي إعتبره كثيرون وأنا منهم الرجل الأول (مكرر) في الدولة قبل الحرب وبعدها!
أصبح هادي بسبب ذلك وزيراً للدفاع ، وبعدها احتاج صالح إلى نائبٍ جنوبي له بمقاساته هو وليس بمعايير المصلحة الوطنية ، نائب لا يشاكس ولا ينافس مثل البِيض، يقول للرئيس مايحب الرئيس أن يسمعه وليس ما يجب أن يقال له ، واستناداً إلى دوره في تلك الحرب دفع محسن بهادي إلى قائمة المرشحين لتولي المنصب ، وهو ما استقر عليه في النهاية رأي صالح.
تمكن صالح من ترويض هادي المروَّض أصلاً إلى درجة أن يكون مجرد موظف بدرجة (نائب رئيس) ووصلت به السخرية بهادي إلى حد أن وصفه بأنه في الأساس نائب لمحسن وليس له!
بعد أحداث العام 2011 لم تكن المشكلة عند هادي بل في رأس صالح الذي ظل مصراً على البقاء رئيساً في الظل مستخدماً هادي واجهةً ومطيةً باعتباره كما قال وهو يدق منصة الخطابة إنه "خبزي وعجيني"!
نال هادي من الدعم والتأييد والاجماع ما لم ينله أي حاكم في العالم وربما في التاريخ ، لكنه كان ضعيفاً بحكم تكوينه وظروفه الشخصية أمام قوى تكالبت عليه دون مراعاة لحساسية مهمته في تلك الفترة ، وبالتالي أربكت حساباته .. أزعم أنه لولا الدعم السياسي الداخلي والمالي الخارجي لكان انتهى منذ أول أسبوع.
سأتجاوز ما بعد اجتياح الحوثيين لصنعاء لأقول أن نجاح هادي الوحيد كان الفرار من قبضتهم ، ولكن ماذا بعد؟
وفر له السعوديون بصرف النظر عن حُسن أو سوء نواياهم أفضل الفرص للعمل من الداخل والخارج لاستعادة دولته ، لكنه فضَّل (الاسترخاء) ، وترك أمر قيادة المواجهة العسكرية لنائبه علي محسن الأحمر الذي ظل في دائرة الاستهداف الدعائي الواسع بخبثٍ سياسي بلغ حد العنصرية ، ما أرهق كاهل هذا المحارب السبعيني وأوصل الأمور إلى ما وصلت إليه.
ظل ما بيني وبين الأحمر الكثير من الاحترام ، وقَف إلى جانبي أحياناً في مواجهة غضب صالح ، وخذلني أحياناً إما بسبب وشايات أو تجنباً لمشاكل مع صالح أعانتني السماء على تجاوزها ، لكن محسن كان الأكثر وفاءًا واستقامة ووضوحاً من صالح في كل الملمات والأحداث التي تلت رغم جل تعقيدات الحياة!
اليوم وقد غادر الأحمر السلطة ، ولم يعد للحديث عنه غاية أو مخافة أستطيع القول إنه لم يكن (إسلامياً) بالمعني الايدلوجي بل مسلماً مثل كل المسلمين ، يصلي ويصوم ، وغير ذلك لكنه كان (عسكرياً) يفخر بتنفيذ الأوامر (العليا) حتى دون مناقشتها لدرجة كادت أن تودي بحياته في آخر جولة من حروب صعدة.
أدار الأحمر العديد من الحوارات مع قوى سياسية كثيرة حضرتُ بعضها وكان من أهداف إحداها إقناع الأفغان العرب بمغادرة البلاد وقد نجح في ذلك ، وبالفعل غادر الكثير من المصريين والتونسيين والجزائريين وسواهم ، وأحدها كان لترويض اليمنيين منهم إما للالتحاق بقوى الجيش والمؤسسة الأمنية أو العودة إلى قراهم ، وأتصور أنه تمكن من ذلك ، ولكن دون تعاطف معهم على الرغم من اقترانه بشقيقة طارق الفضلي أحد من يقال أنه كان من المقربين من زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.
في نهاية كل النهايات سيأخذ هادي مع أولاده وحاشيته ما أخذ ، وسيبقى الأحمر (مسؤولاً) أمام محكمة التاريخ عن إتاحة الفرصة امام صالح للوصول عنوةً إلى سدة الحكم وعندما أرسل مروحية لاحضاره إلى مقر القيادة العامة للجيش من تعز عقب مقتل الرئيس الراحل أحمد الغشمي ،ممهداً طريقه إلى رئاسة الدولة بسيف المعز وذهبه ، وعن الدفع بهادي عقب انتفاضة شعبية ساهم الأحمر في أحداثها ، والانتخابات التي جرت بعدها لتربع مقعد الرئاسة لإحدى عشرة سنة اختفت خلالها وبعدها هيبة الرئاسة ومعالم الدولة ومستقبل البلاد!