بين “سيئون” و”مأرب” ثمة يمن آخر لا نعرفه
في تأملِ الطريقِ، وما على جانبيها، بين مدينتَي “سيئون” و”مأرب” ثمة ما يثير أكثر من شجنٍ فيك، شجَنٌ يخترق الرمل المتراكم فوق هذه الصحراءِ عبر آلافِ السنينِ ليصلَ بك إلى مركز السحر في أعماقها.
طوال أكثر من خمس ساعات من السفر كنت مأخوذاً بتداخل الأزمنة على هذه الأرض، مشدوهاً بشموخ آخر ما تبقى من قمم الجبال التي لم تطمرها رمال العصور.
ثمة ما يجعلني أشعر بأنني في حضرة “إمرئ القيس”:
“دمونٌ دمونٌ إنا معشرٌ يمانَون
وإننا لأهلنا محبون”.
إنها أول مرة أعانق فيها الصحراء بحرارة، فأحس فيها بأنفاس الأسلاف، من أودعوا باطنها أرواحهم، حضاراتهم، أمجادهم، ثم انصرفوا.
لم يكن اليمنيون الأوائل الذين ابتكروا بعض أقدم اللغات على وجه الأرض حمقى حين دوَّنوا خبراتهم نقوشاً على ذاكرة الحجر، فقد كانوا يعلمون حتماً أن ذاكرة الإنسان لا تقوى على حفظها، ولا على حمايتها من جهل الإنسان وعدوان الطبيعة.
قبل هذا كنت قد استبحت صحراء شرق اليمن جيئةً وذهاباً بسيارتي ووحيداً أحياناً بين “مأرب” و”ثمود” و “شِحِن”، وحتى أطراف “المهرة” إلى “حوف” و”صرفيت” على أطراف “ظفار”، ثم العودة عبر “المكلا” مروراً بسواحل “شبوة” و”دلتا أبين” حتى “عدن”، ثم إلى “تعز” ومنها إلى “الحديدة” في طرق العودة المختلفة إلى صنعاء.
ذلك كان بعضاً من هواياتي وإجازاتي التي قضيتها في اليمن ذارعاً كل جزءٍ منه من أقصاه إلى أدناه، مفتوناً بجغرافيته، برمال سواحله الذهبية على اثنين من أهم بحار الدنيا، بحار الأرض، وبحار التاريخ، البحر الأحمر، وبحر العرب وبينهما عشرات الخلجان والجزر الفاتنة.
كنت دائماً في كل مكانٍ ذهبت إليه متأملاً في كل وجوه الناس، لهجاتهم، عاداتهم، طعامهم، ثيابهم، أساليب تعاملهم البينية ومع الآخر القادم الغريب. في كل هذه التجارب أحسست أنني أقرب ما أكون إلى تراب أبين، صحراء “بيحان” مفازات مأرب، ورمال “الجوف” بالتأكيد لست أقلّ من “ويندل فليبس” الباحث الأثري الأميركي الشاب الذي قاد بعثة مثيرة للجدل مطلع الخمسينيات من القرن الماضي واكتشفت آثاراً مهمة، ولا أقلّ من الفرنسي “أندريه مالرو” عالم الآثار ووزير الثقافة في عهد “شارل ديغول” أو غيره من علماء الآثار والمستشرقين الذين حملوا متاعهم، وشدوا رحالهم من أوروبا خلال عشرات العقود من القرنين الماضيين، وجاؤوا إلى هذه البلاد في مهامٍ علمية واستكشافية مضنية، في وقت لم يكن هناك ما يضمن عودتهم بسلام إلى أوطانهم.
لم يكن لمن عاشوا هنا آلاف السنين في طول كل هذه الصحراء وعرضها أن يفعلوا ذلك لولا أنهم وجدوا ما يحملهم على ذلك… سحر الأصائل فوق تلك الرمال الذي يمنح ذهنك أقصى درجات الصفاء، بساطة الخيمة التي تعيدك إلى إنسانك الأول، اشتعال الحطب القليل تحت يديك يعيد إيقاد روحك فيك، واللحم المشوي على الحجر أو المهروس في تناوير تحت الرمال.
في هذا النمط من العيش ما يجعلنا أقرب إلى فهم الصورة في الشعر الجاهلي، بل ما هو أقدم منها من خبرات قدماء اليمنيين في علوم الفلك، قوانين المطر، فصول الزراعة، وغيرها، وقبل هذا وذاك أين تكمن الحكمة في نظرة الإنسان إلى ما حوله في الوجود، وكيف تحلو له لذة العيش بالقليل المتوفر بين يديه.
قبل هذه الرحلات كنت اقتفيت أثر المستشرق الألماني “إدوارد جلازر” ورفاقه الآخرين في البحث عن ذات “المضمون الإنساني” القديم لحياة اليمنيين ما بين آثار “البيضاء” و”ذمار” جنوب صنعاء ثم “أرحب” و خمر” إلى الشمال منها.
مثل ذلك “العبث” الذي عانته آثار اليمن بعد الإسلام خصوصاً على أيدي الأئمة وغيرهم حديثاً لم ترَ آثار كل الحضارات التليدة، فهي لم تلقّ الإهمالَ فقط بل الإساءةَ والعدوانّ بوصفها رموزاً لحضارات “وثنية” وبدلاً من هذه الشواهد التي دلت على تقدمٍ في فنون النحتِ وتضمينِ الجسدِ الأثريِّ شهادةً على رقيّ المعرفة في عصره تم نصب القباب والقبور، قبور “الأولياء الصالحين” من مختلف المذاهب!
كانت النقوش على الأحجار في يمن ما قبل الإسلام إضاءات على إبداع الإنسان في يمنٍ آخرَ كانت الحكمة ضالته والفكرة بوصلة الهداية لديه إلى الحق الصراح… ما يحزن على نهاية ذلك الدور المتواضع الذي لعبه الحجر في التعبير عن مشروعات الريّ والزراعةِ والمساجدِ والمكتباتِ في عصرِ الملكةِ أروى بنت أحمد الصليحي، أن الحجر في حياة اليمنيين مات، وعاد إلى سيرته الأولى حجراً في مداميك الاستبداد والتخلف !
بالتأكيدِ أن الوطنَ ليس حجراً نقدّسه لكنه حين يتبدّى نقشاً على حجرٍ نابضٍ بالحكمة، وحين يتجلّى في مجسمٍ أثريٍ لهيئة ملِكٍ حكيمٍ عظيم، أو وجه سبئيٍ من زمنٍ غابرٍ فإن ذلك يعني أن هذا هو ما تبقى من عناوين أسطورةِ إنسانِ هذه الأرضِ، وما ظلّ في الوجودِ من روحهِ التي لا تزال، وستظلّ تسرى في الأبد!
*نقلاً عن اندبندنت عربية.