محمد مشموسي
ليست المسألة أن يرد «حزب الله» (عفواً، نظام «ولاية الفقيه» في إيران) على الغارة الاسرائيلية التي استهدفت 12 مقاتلاً لبنانياً وإيرانياً في منطقة القنيطرة السورية، ولا هي أين وكيف ومتى يتم هذا الرد. المسألة أن جندياً سورياً واحداً لم يكن ضمن القافلة المستهدفة من جهة، بما يعني أن سيطرة «الحرس الثوري الايراني» على الجزء السوري (غير الخاضع للمعارضة) من الجولان باتت كاملة، وأن وضعاً اقليمياً جديداً نشأ فيه شبيه بما هي عليه حال الجنوب اللبناني ودور ايران فيه من جهة ثانية... لكن أساساً وقبل ذلك كله، خلق «أمر واقع» ايرانياً في المنطقة، وتأكيد أن سياسة القضم، ثم محاولة الهضم البطيء، قد حققت نقلة جديدة: من لبنان والعراق سابقاً، الى سورية الآن، وحتى الى اليمن ومضيق باب المندب، عبر «انصار الله» الحوثيين، في الفترة ذاتها.
المسألة هنا قبل أي شيء آخر، وحتى قبل ما تحدث به رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الايراني علاء الدين بروجردي عن «رد مزلزل» ستقوم به أداته اللبنانية («حزب الله»)، من زاوية أنها تكشف طبيعة التسلل الايراني الى دواخل بلدان المنطقة، على الأرض كما في السياسة والأمن والبنية السياسية لهذه البلدان فضلاً عن نسيجها الاجتماعي (الطائفي والمذهبي) بهدف فرض «الأمر الواقع» هذا، مضافاً الى «أمر واقع» آخر هنا وهناك، على الطريق لبسط هيمنتها على الاقليم كله. ومؤداها طبعا، ليس العدوان الاسرائيلي على القافلة الايرانية فقط، انما أيضا الغاية الفعلية من هذه القافلة: هل هي لتنفيذ عملية أمنية ضد اسرائيل، كما قالت حكومة العدو، أم للتحضير لها في وقت لاحق، أم هي لمجرد ابلاغ اسرائيل بأن ايران باتت على حدودها الشمالية كلها من الجولان الى الناقورة في جنوب لبنان؟.
الحال أن هذا تحديداً ما فعلته سياسة التمدد الايرانية في العراق بعد الغزو الأميركي العام 2003، وقبله في لبنان، والآن في سورية واليمن وربما في غيرهما، استغلالاً لأوضاع غير سوية في هذه البلدان في بعض الحالات (العراق بعد الغزو وسقوط صدام حسين، ولبنان بعد الاجتياح الاسرائيلي العام 1982، وسورية بعد وفاة حافظ الأسد ثم بعد الثورة الشعبية على خلفه بشار العام 2001) أو افتعالاً لمثل هذه الأوضاع في حالات أخرى... من السودان الى اليمن الى البحرين الى بعض دول الخليج الأخرى وغيرها.
في حالة سورية الآن، لم يعد سراً أن بشار الأسد ونظامه تحولا الى ما يشبه «شاهد الزور» الذي لا يملك من السلطة إلا ما يعطيه إياه «الولي الفقيه» علي خامنئي، والذي يحميه حتى جسدياً أفراد من من «الحرس الثوري» و»حزب الله» بعد أن قالا علناً أنهما أنقذا نظامه من السقوط. وعملياً، فلم تكن قافلة القنيطرة، وبالتالي الغارة الاسرائيلية عليها، الا تأكيداً لهذا «الأمر الواقع» الذي أرادته وسعت اليه ايران منذ دخول مقاتلي «حزب الله» الى داخل سورية... أولاً بدعوى مساعدة مواطنين لبنانيين يعيشون في قرى سورية، ثم بذريعة حماية مزار السيدة زينب وغيره، ثم بحجة الدفاع عما يسمّى «ظهر المقاومة»، لتتحول المهمة الآن الى امكان فتح جبهة الجولان ودخول الجليل، كما قال الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله قبل أيام فقط من عملية القنيطرة.
والواقع أن التمدد ذاته، وبأسلوب خلق «الأمر الواقع» اياه، شهده لبنان في خلال الفترة السابقة، منذ انشاء «حزب الله» من قبل الحرس الايراني العام 1982، مروراً بحملة ملاحقة الأجانب وخطفهم وتفجير مقراتهم على امتداد فترة الثمانينات، وصولاً الى «لو كنت أعلم» العام 2006، ثم الى «اليوم المجيد» العام 2008، من دون نسيان اعلان تشكيل «جبهة مقاومة الشعوب» من قبل محمود أحمدي نجاد والأسد ونصرالله في دمشق، وبعدها لاحقاً مصادرة القرار اللبناني عبر منع انتخابات الرئاسة مرتين على الأقل واسقاط الحكومات وتشكيلها بقرار وحيد منه... وفي المحصلة، وضع البلد كله في قبضة ايران وتحت رحمة استراتيجيتها وخططها في المنطقة.
وكما في العراق بدوره، ففي كل مرة اصطدمت الخطة الايرانية بما يعيق تقدمها هنا أو هناك، فقد كانت تلجأ الى التراجع التكتيكي لكن من دون أي تبدل أو تغيير فيها: تسهيل تشكيل حكومة ما في لبنان عند الضرورة، أو التزام مندرجات القرار 1701 في جنوبه، أو التخلي عن رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي عندما لا يكون بد من ذلك، أو حتى التعاون والتنسيق مع «القاعدة» أو «حماس»، ثم اقفال الأبواب أمام أي منهما، ثم اعادة فتحها مجدداً، عندما تجد أياً من هذه الأمور مناسباً لها.
المهم هو خلق «وقائع» ايرانية جديدة على الأرض، لا سيما منها الأرض العربية، من أجل هدف واحد في نهاية المطاف هو المساومة عليها في «لعبة الأمم» التي بدأتها منذ فترة مع الدول الكبرى الست من جهة، وحتى مع حليفتها روسيا من جهة ثانية.
ولا مبالغة في اعتبار ان عملية القنيطرة جاءت في هذا السياق، كذلك هي الغارة الاسرائيلية رداً عليها والتي جاءت على طريقة: أخذنا علماً!.
كما لا مبالغة في القول ان ما شهدته صنعاء في الأيام القليلة الماضية لم يختلف عن ذلك، وأن ما تنتظره طهران هو رد مماثل من الدول الست نفسها، وحتى من الأمم المتحدة التي ترعى مشروع التسوية في اليمن.
ولعل ما قاله مستشار المرشد الايراني، علي شمخاني، بعد ساعات فقط من انقلاب الحوثيين على التسوية، ودعا فيه الى فتح صفحة جديدة مع دول الخليج والمملكة العربية السعودية، لا يخرج عن المناورة الايرانية نفسها.
* الحياة