يقول دعاة العلمانية حلاً سحرياً لمشكلاتنا: إنه لامناص منها إزاء صراع الأحزاب والجماعات والطوائف، إذ تقف على مسافة واحدة من جميع الفرقاء(المختلفين).
ومع الإقرار بأن أسوأ أنواع القهر هو ذاك الذي يدّعي استناده إلى الدين والسماء (الحق الإلهي) فإن ثمة حقائق تغيب وسط هذا الجدل المحتدم الداعي من قبل البعض إلى العلمانية، بدعوى أنها النموذج الوحيد والحل الأمثل الذي يمكنه الوقوف على مسافة واحدة عند التعامل مع جميع الفرقاء في المجتمع المتعدّد. وهنا وبسبب ذلك الصخب في الجدل تضيع حقائق بدهية – في الأصل- مثل موقف دولة العدالة في الإسلام من المختلفين في إطار حكمها، سواء كانوا أصحاب أديان، أم جماعات سياسية، أم أحزاب فكرية، أم مذاهب وطوائف دينية، هل تنحاز للطرف الذي يدين بها أو بمعتقدها الديني أو الفكري أو السياسي أو المذهبي أم تقف من الجميع على مسافة واحدة؟
قد يفاجأ الكثير حين تكون الإجابة بأن دولة العدالة المنشودة تقف من الجميع على مسافة واحدة، إذ سيتضح بالدليل القرآني كيف أن الإسلام يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه الحاكم المسلم الأول في دولة العدالة بأن يبقى على مسافة واحدة من الجميع عند حكمه، بمن في ذلك المختلفون معه دينياً وعقائديا. ومع أن لديّ العديد من الدلائل والشواهد على ذلك فسأقتصر على واحد منها هنا، والبقية أوردتها في كتابَي اللذين ينتظران النشر وهما:(العلمانية في مجتمع مسلم بين الممكن والمستحيل) و( النموذج التركي: حزب العدالة والتنمية وأردوغان وحقيقة العلاقة بالعلمانية). وهاكم واحداً من أبرز الشواهد على ذلك كما تحكيه الآيات الكريمة من 105- 113من سورة النساء :
قال - تعالى-:
{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما.واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيما. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لايحب من كان خواناً أثيماً. يستخفون من الناس ولايستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالايرضى من القول، وكان الله بما يعملون محيطاً.ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة، أم من يكون عليهم وكيلاً.ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيما. ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه، وكان الله عليماً حكيماً.ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً. ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم، وما يضرونك من شيء. وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك مالم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيما} (النساء:105-113).
يشير هذا المقطع من الآيات إلى سبب نزولها بما حاصله- وفقاً للمصادر التفسيرية- أن رجلاً من الأنصار يسمى طعمة بن أبيرق كان سرق درعاً، وأخفاه لدى يهودي، وحين اكتشف أمره وطولب به، زعم أنه برئ، وأن اليهودي هو من سرق الدرع، وطلبت عشيرة بن أبيرق من النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يبرئه أمام الناس، حفاظاً على سمعته وسمعة العشيرة، حتى همّ النبي - عليه الصلاة والسلام - بذلك فأنزل الله تعالى تلك الآيات (يراجع في هذا تفسير: محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري (حققه وخرّج أحاديثه محمود محمد شاكر)، جـ 9، ص 182 ، حديث رقم10412 ،د.ت، د.ط، بيروت: دار المعارف).
وقال شيخ المفسّرين الطبري(ت:310هـ) في تفسيرها:
"يعني جل ثناؤه بقوله: " إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله "،" إنا أنـزلنا إليك " يا محمد" الكتاب "، يعني: القرآن" لتحكم بين الناس "، لتقضي بين الناس فتفصل بينهم" بما أراك الله "، يعني: بما أنـزل الله إليك من كتابه" ولا تكن للخائنين خصيما "، يقول: ولا تكن لمن خان مسلمًا أو معاهدًا [ أي غير مسلم] في نفسه أو ماله"خصيماً " تخاصم عنه، وتدفع عنه من طالبه بحقِّه الذي خانه فيه"( راجع: المصدر السابق، جـ9، ص 176).
و ينقل الشيخ محمّد رشيد رضا (ت:1354هـ-1935م) في تفسير المنار عن شيخه محمد عبده(ت: 1323هـ-1905م) الذي يصفه عادة بالأستاذ الإمام في تفسير تلك الآيات قوله:
"وقال الأستاذ الإمام : بعد أن حذر الله المنافقين من أعداء الحق الذين يحاولون طمسه بإهلاك أهله ، أراد أن يحذرهم مما يخشى على الحق من جهة الغفلة عنه ، وترك العناية بالنظر في حقيقته وترك حفظه ، فإن إهمال العناية بالحق أشد الخطرين عليه؛ لأنه يكون سببا لفقد العدل أو تداعي أركانه، وذلك يفضي إلى هلاك الأمة، وكذلك إهمال غير العدل من الأصول العامة التي جاء بها الدين، فالعدو لا يمكنه إهلاك أمة كبيرة وإعدامها ، ولكن ترك الأصول المقومة للأمة كالعدل، وغيره يهلك كل أمة تهمله ، ولذلك قال [ وذكر الآية الأولى] (محمد رشيد رضا، تفسير المنار،ج 5 ص 320، د.ت، د.ط. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب). أي {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما}.
وقال رضا:
" ولا تكن للخائنين خصيماً ، تخاصم عنهم وتناضل دونهم ، وهم طعمة وقومه الذين سرقوا الدرع وأرادوا أن يلصقوا جرمهم باليهودي البريء ، فهو كقوله - تعالى - في السورة الآتية : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءه ( 5 : 49 ) ، فالحق هو المطلوب في الحكم سواء كان المحكوم عليه يهوديا أو مجوسيا ، أو مسلما حنيفيا" (المرجع السابق،جـ 5، ص 320-321) .
هانحن رأينا في هذه الآيات أنها تخاطب النبي –صلى الله عليه وسلم – ليقف على مسافة واحدة من جميع الفرقاء، من غير تحيّز لطرف على حساب آخر، وهو- في حقيقته- الموقف الذي يراه دعاة العلمانية في مجتمعاتنا المسلمة مبرّرهم الأكبر للمناداة بها، في حين تأكّد لنا من خلال تلك الآيات أنه مطلب أساس للإسلام، من غير تكلّف ولا اعتساف، قبل أن تنشأ العلمانية بقرون متطاولة، كما أن ذلك يؤكّد صواب ترديد الرئيس التركي طيب أردوغان في أكثر من مناسبة أن هذا الموقف الذي يتبناه - بوصفه قائداً مسلماً لدولة علمانية- إزاء جميع فرقاء السياسة في تركيا هو موقف منسجم مع الإسلام لا متعارض، مع إدراك كل متابع للواقع التركي وتعقيداته، ذاك الذي يجعل الرئيس أو سواه غير قادر على إبداء أيّ تصريح متعارض مع العلمانية.