منذ مدة ليست بالقصيرة وأنا أرقب خطابا مفزعا متناميا بلغ ذروته في الآونة الاخيرة، يتبناه بعض المقهورين جرّاء السياسة الحوثية، جاء أقرب إلى رد الفعل على العنف الممنهج الذي تمارسه الجماعة تجاه أبناء اليمن كآفة، خاصة من الرافضين صراحة لمشروعها السلالي العنصري المقيت.
لكن -ويا للأسف- بدأ خطاب بعض ضحايا الحوثية وقهرها يصرّح اليوم بحتمية اجتثات التراث الهادوي أو الزيدي، بل يذهب البعض إلى اجتثاث أو (كنس) مايسمى بسلالة(الهاشميةالسياسية) من جذورها، بمن فيها بعض المخترقين للصف (السنّي) أو (الوطني) أو ( الشرعية)!! وكأنه ينادي -من حيث يدرك أو لايدرك- بمسلك (التطهير العرقي) الذي جرى في بعض المجتمعات (الإثنية) . وذلك خطاب- أيّا كانت دوافعه ومبررّاته - نزق عنيف بل عنصري جاهلي متخلّف كذلك، إذ يسعى لمداواتها بداء مماثل لايقل سوءا عن الداء الأساس!
لو تذكرنا فإننا سنتذكر أن الفكر العنصري في اليمن تعرّض منذ قامت ثورة سبتمبر 1962م لهزات كبيرة كادت أن تفقده القدرة على الاستمرار، و ضعف إلى حد كبير، بأساليب بعيدة عن العنف إلى حدّ مقدّر، وكان لأحرار الهاشميين دور محوري في ذلك، بدءا من اشتراكهم في ثورة سبتمبر ذاتها، ومن قبلها ثورة 48م، كما كان لمناهج التربية والتعليم والمعاهد العلمية دور مركزي في ذلك، مما أسهم في نشأة جيل بأكمله هو جيل الثورة (في الشمال) خال من العقد الاجتماعية والأمراض الفئوية إلى حد ّ غير قليل. وصحيح أن التخطيط من قبل فئة داخل الشريحة الهاشمية تسمّى (الهاشمية السياسية) ظل قائما مستمرا لإعادة هيمنتها وإحياء تلك النزعة المقيتة، وذلك منذ المصالحة الوطنية في1970م، غير أن ذلك لايمنح أحدا -فردا كان أم جماعة- مبررا اليوم بحال لتبني خطاب عنف عدمي لايفرّق بين جلّاد وضحية، وتابع ومتبوع، ومنتسب إلى تلك الفئة بقضاء الله وقدره وحكمته ( ومن المخجل أن تصوّر تلك تهمة بحد ذاتها)، فيزرع الشكوك حتى في قسم غير قليل من الهاشميين الأحرار، بمن فيهم بعض المنتسبين إلى هذه الفئة من أبناء الشافعية كذلك، عدا أولئك الضحايا الذين من شأن خطاب كهذا أن يؤكّد لهم أن ماكان يردده الحوثيون مرارا - ولا يزالون- من استهداف ممنهج للشريحة الهاشمية جميعا، لن يسلم منه حتى أولئك الذين (تسننوا) باكرا، وصار بعضهم في قيادة الحركة الإسلامية، أو في موكب الشرعية، أو ربما غدا بعضهم قادة لها،كما هو مستهدف كذلك منذ القديم موروث آل البيت والمذهب الزيدي وأتباعه كآفة!!
يخطئ بل يرتكب كبرى الخطايا من يذهب إلى خيار اجتثاث موروث فكري أو فقهي- أيّا كانت إشكالاته وفواقره- ظل لمئات السنين مذهبا تقليديا لملايين اليمنيين في شمال البلاد، .وهذا كله مبني على افتراض أن هناك أملا بأن تغدو الكلمة العليا غدا للشرعية بلا شراكة مدمّرة مفروضة إقليميا ودوليا، مع من تتم الدعوة اليوم لاستئصالهم وجذورهم وامتداتهم الفكرية والفقهية والبشرية! علاوة على أن النخر من داخل الشرعية كان قائما -ولايزال- وسيشتد عوده أكثر إذا ما لاح نصر أو أفضت جهود النصر المأمولة ونتائجه إلى عملية التسوية السياسية التي لامحيد عنها حتى لو فرضت من موقع قوة حققتها الشرعية كما يؤمّل كثيرون.
لايجوز من قبل كل العقلاء والوطنيين الصادقين مشايعة دعوات تنادي بالتصدي العنيف المباشر لأتباع الفكر الزيدي، وفوق أن ذلك مسلك غير أخلاقي لأنه يرادف بين رؤوس الفتنة وضحاياها من الأتباع العاديين الذين درجوا على التمذهب خلفا عن سلف فذلك مسلك علمتنا السنن أنه مسلك عنف يجرّ إلى العنف، وهو مالا ينقصنا فائض عنف تجاهه، غير أن الوسيلة المثلى العاجلة القريبة هي الاحتكام إلى القضاء العادل المأمول - أيّا كانت معوقاته- وذلك لكل ذي مظلمة، وكذا ضرورة النص الصريح في الدستور القادم المفترض والقوانين ذات الصلة على تجريم العنصرية والسلالية ومافي حكمهما، وكل ما يجر إليهما أو حتى يشجعهما، وأخطر أدوات ذلك ووسائله تلك المناسبات السنوية (الكهنوتية) كعاشوراء والغدير وذكرى وفاة الإمام علي والزهراء وزيد-رضي الله عنهم أجمعين - وحتى توظيف مناسبة عظيمة كالمولد النبوي لأغراض عنصرية مسيّسة بالطريقة الاستعراضية الاستفزازية تلك برّز فيه الحوثيون وحدهم، وهي مالم يعرفها اليمنيون على ذلك النحو في العهد الجمهوري خاصة، وكذا كل مناسبة مماثلة تصدر عن أي جماعة أو مذهب أو طرف -أيّا كانت مظلته-.وأيما تساهل في ذلك أو تراخ فإنما يدعو أو يسهم في بقاء تلك النزعات حيّة مفروضة على المجتمع، ودعوة مفتوحة إلى الاحتراب الأهلي مجدّدا، واستمرار دوامة العنف، كلما بدأت أجواء السلام الاجتماعي تعم البلاد.
ذلك على المستوى العاجل القريب أما على المستوى المتوسط و البعيد فليس أمامنا جميعا سوى منهج التربية والتوعية والتنشئة -عبر كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية وفي مقدمتها المدرسة، ثم وسائل الإعلام الرسمية والخاصة، ووسائل التواصل الاجتماعي- على القيم المطلقة والمبادئ العليا، أي العدالة والحرية والمساواة ونحوها، في مقابل إظهار مساوئ أضدادها وتعارضها مع الدين والقيم والمبادئ السامية، وسلوك الأسوياء المتحضّرين حتى من غير المسلمين.! والله من وراء القصد.