تنبئ تطورات الأحداث عن دخول الأزمة اليمنية مرحلة حاسمة لا بد أن تنتهي بتثبيت شروط الحل السياسي الذي سينطلق في الأساس من المرجعيات التي تؤمن سلاماً دائماً وحلاً عادلاً لكل مشاكل البلاد .
كل المستجدات التي تجري على الارض ، سواء السياسية أو العسكرية، تنتج على نحو موضوعي شروطاً تراكم الحل على هذا النحو الذي يؤمن رد الاعتبار للمشروع الوطني الذي خرج به مؤتمر الحوار عام٢٠١٤ .
ومهما بدا أن التعقيدات الناشئة عن هذه التطورات المتسارعة كبيرة ، إلا أن ديناميات الانقلاب والحرب أخذت تتآكل ، وذلك بانكسار تحالف الإنقلاب الذي مثل "العمق" الذي ظل يمد معاركه بالزخم المادي والمعنوي لهذا التحالف في كل الظروف . إن القوة التي تجسد رغبة حمقاء في إستمرار التمسك بالخطأ لا تعني أكثر من السير نحو نهاية حتمية كان يمكن تجنبها بقدر ضئيل من التفكير الواقعي بمتطلبات الحكم الذي يؤمن السلام للجميع . الحوثيون إندفعوا بحماقة نحو السيطرة على اليمن بأدوات قوة ملتبسة بمنهج عفى عفى عليه الزمن ، مكرسين هذا المنهج القديم بتعديلات رثة مستوحاة من "المشروع المهيمن " الذي تتفرع منه هذه المشاريع المفرخة . وهم بهذا ينطبق عليهم المثل الحضرمي " من بغاه كله خسره كله ".
أما على الصعيد المقاوم للانقلاب فيبدو أن البحث عن حلول خارج معادلة مقاومة وهزيمة "المشروع المهيمن" قد أفضى إلى ما أفضى إليه من عثرات ، بالرغم من التضحيات الضخمة التي قدمت . لقد أثبت المنطق بما لا يدع مجالاً للشك أن خوض الحرب بأدوات نصف حربية ومنهج "مراوح" مسألة يعيبها فهم طبيعة الخصم الذي يجري التصدي له . تفرعت عن هذا الوضع ميوعة في علاقة القوى التي إصطفت في جبهة واحدة لمواجهة الانقلاب / المشروع ، وهو ما خلف فجوات ضخمة في العلاقة كان يملؤها خطاب إستعلائي لا يرى من المشكلة غير ما يجسد حصة صاحبه في الغنيمة المنهكة ، وخطاب إنقسامي يوزع أوسمة النصر في مواسم الهزيمة والحزن ، وآخر يشكك في من يقف إلى جانبه في خندق التضحية ، وآخر يلقم العلاقات الكفاحية المشتركة جرعاً من الاحباط والسخرية . وحتى عندما حان الوقت لتصحيح مسار هذه العلاقة تم الأمر بوضع الجميع أمام خارطة كل مقاييسها معتمدة على فرجار لا يتحرك إلا في إتجاه واحد وبمقدار مبرمج من الاتساع .
إن الخصم الذي يجري التصدي له ، والمتمثل في المشروع الايراني ، يتمدد فوق رقعة واسعة من البلاد العربية ، وهو يصر على أن معركته في هذه المنطقة "وجودية" .
هكذا ، وفي غفلة من الزمن ، إستطاع أن يصيغ معادلة للخصومة بمضامين لا تحتمل ، من وجهة نظره ، أي حلول سياسية غير الصراع والحروب ولا سواهما . وهو في هذا لا يرى غير خيار واحد من إثنين : إما أن ينتصر ويسيطر ، أو يمزق الشعوب بإنظمة طائفية يبقيها في حالة حرب وخصومة ومواجهات دموية لا تنتهي .
إن هذا "الخصم" ، الذي افتعل الخصومة واستدعاها من ثنايا تاريخ مفعم بالعنف ، كان في حاجة خاصة إلى أن يلعب بورقة هذا الصراع التاريخي ، الذي بدا أنه كان قد أصبح في متحف التاريخ ، لا سيما وأن التبدلات التي شهدتها الدولة المعاصرة قد فتحت الباب أمام نمط جديد من النظم السياسية والاجتماعية التي تأخذ بيد الفرد إلى المكانة التي يصبح فيها مواطناً بكامل حقوقه وواجباته الدستورية ، بغض النظر عن أصله ولونه وطائفته وانتمائه السياسي ..الجميع متساوون أمام القانون .
أدى ذلك التدخل المقصود والمدروس في اللحظة التاريخية التي كانت تقدم فيها التضحيات من أجل بناء دولة المواطنة تلك إلى إرباك هذه العملية التراكمية على هذا الطريق ، وأخذ ينتج المعادل الموضوعي المقابل من جرعة التطرّف لدى الطرف الآخر الذي يرفض أيضاً قيام مثل هذه الدولة لتضع هذا المشروع الوطني رهين هذا التطرّف الذي يبدو على أنه متعاكس فيما ترفعه أطرافه من شعارات ، ولكنه يخدم نفس الهدف ، وهو منع قيام دولة المواطنة ونظامها المدني الذي يؤمن حقوقاً قانونية متساوية لكل المواطنين .
هذا ما حدث على وجه الدقة في اليمن ، وفي اللحظة التاريخية التي أنجز فيها اليمنيون مشروع بناء دولتهم المدنية ، دولة المواطنة والقانون ، كما جسدتها مخرجات مؤتمر الحوار الوطني .
مثل الانقلاب على هذا المشروع تواصلاً عضوياً مع المشروع التفكيكي المصمم في الاساس لإغراق المنطقة العربية في صراعات دموية لا تنتهي .
لم يكتف بتعطيل مشروع بناء دولة المواطنة ، وإنما حرك نقيضه ليواصل بناء دينامياته وآلياته بالاعتماد على التطرّف الذي أخذ يغذي بعضه بعضاً ، ولهذا يخطئ من يعتقد أن المشروع الايراني على نقيض مع داعش والقاعدة وغيرهما من مشاريع التطرّف . جرى تسويق هذا الاعتقاد عند دوائر معينة في الغرب بالاعتماد على المناهج النظرية المترعة بالاختلاف والتناقض والتي أسقطها الواقع بحساباته التي تتم بمعايير مختلفة تماماً . ولا يحتاج الأمر سوى إلى مراقبة المشهد عن قرب لمعرفة كيف يوفر هذان المشروعان لبعضهما شروط الاستمرار والبقاء في مواجهة أحلام الشعوب في الاستقرار والسلام والتطور .
المشروع الذي أعلن الحرب على السلام وعلى الخيارات الوطنية في المنطقة العربية لن يتراجع بالمناشدة الاخلاقية ، والحرب التي تستهلكها السنين هي مكسب بالنسبة له ، لأن هذا النوع من الحروب ينتج أوضاعاً انسانية مأساوية يختفي معها أصل المشكلة ، وهذا هو أخطر ما يمكن أن يجعل معادلة الحل تحلق خارج الموضوع الاساسي المنشئ للمشكلة .
إعادة قراءة جذر المشكلة والتركيز عليه سيكون مدخلاً لتصحيح منهج مقاومة هذا المشروع بدون حسابات من ذلك النوع الذي سبق أن جرب وخرب كل شيء ، وبدون أي تفكير بتسوية يغيب فيها إغلاق كل الفجوات التي يمكن أن يتسلل منها هذاالمشروع مجدداً أو غيره من المشاريع التي ظلت تقمع فكرة الدولة الوطنية .. ولن يكون ذلك ممكناً إلا بهزيمته النهائية ورفض نظامه الطائفي بإقامة الدولة الوطنية التي تؤمن المواطنة والسلام والاستقرار والحياة الحرة الكريمة لكل المواطنين .