غرائب الزمن كثُر وأغرب ما فيها عدم استغراب الكثير حين مشاهدتها… فهل تغيرت السنن أم تبدلت المعايير المتفق عليها منذ آدم أم أن العقول قد تبلدت .
شاهدت الحوثي عبدالملك يخاطب اليمنيين من قناة اليمن ، ويخاطب الاقليم والعالم باسم اليمنيين ..فانتابتني مشاعر غريبة ، ونازعتني أشتات الأفكار المتسربة من بقايا الوعي المثقوب بدبابيس الواقع الاهوج ، وتساءلت هل ما نعيشه واقعا أم أن الواقع يشكو عيشنا فيه .
عادت ذاكرتي بضع سنين لأتذكر أصوات سبعة ملايين يمني ويمنية من أبناء العرب العاربة ، وتخيلت تلك الاصوات وهي تصرخ من صناديق الاقتراع في وجه هذا الكائن الغريب الذي يتحدث باسم ذويها… في مشهد يصوره وهو دائس بقدميه على إرادة اليمنيين ..قائل بلسان الحال - دوما والمقال احيانا - : لا قيمة لاختياراتكم الذاتية أيها اليمنيون، ولا مكانة لرأيكم في حضرتي ، ولا اعتبار لاتفاقاتكم التي تفرز حاكما عليكم غيري .
وأعدت التركيز في خطاب هذا الكائن المتكلم من قناة اليمن ..فإذا به يؤكد أنه سيقدم رقاب الآلاف من اليمنيين قربة بين يدي سلطته ، وأن دمائهم كفيلة بإغراق عشرات الالاف من الصناديق المحشوة بأوراق التعبير عن ارادتهم… لتمتزج حُمرة دمائهم بزرقة مداد أقلامهم لتخرج في لوحة جديدة مرسوم فيها صرخته المدوية في وجه اليمنيين .
حينها تولدت لدي مشاعر الكآبة فلجأت إلى تعليل نفسي بغلبة الاقدار الجارفة للاحلام ...في هروب سافر عن مواجهة الحقائق التي ما كان ينبغي لها أن تكون ....ولكنني تذكرت أنني لا انتمي لجماعة " القدرية " ولا أؤمن بمنهجها ، فالاقدار مرتبطة بعالم السنن محكومة بالمسببات .
عدت إلى محاولة قراءتي لواقع أقرب ما يكون إلى الخيال… فهناك ثلّة حملت سلاحها لاختطاف إردة اليمنيين ، والسطو على حقوقهم ، والاعتداء على ممتلكاتهم ، وإلغاء أنسانيتهم… وفوق كل ذلك تمترست خلف رقابهم ، ورقصت على جثث قتلاهم ، ومولت حروبها من جيوبهم ، وروجت لافكارها المناقضة لثقافتهم في مؤسساتهم ، واستعدت الجيران باسمهم ، وبناء على معايير تلك الجماعة فصّلت لليمنيين أثواب الوطنية والدين والقيم ..
وتماشيا مع التفكير المؤرق في الافعال ، والتمعن في شرعية الفاعلين لم تسعفني الألفاظ في توصيف هكذا وضع ...إلا ان لفظة استحضرتها دون وعي من خطاب القذافي الذي قال فيه لفظة في غير مكانها ، ولكنني وجدت لها مكانا فتساءلت قائلا : مــــن أنتــــم ؟؟؟
وللحقيقة فانه وعلى الأرضية السلالية المقفرة من أدنى القيم فإنه لا غرابة في سلوكهم منهج كهذا فذاك امتداد طبيعي لتاريخهم وتجسيد واقعي لرغباتهم ....إنما الاستغراب من انصارهم المقاتلين في سبيل شهوتهم ، والعائقين للعدالة من الوصول اليهم ..فهم - الاتباع - الذين يمثلون السياج الواقي لظالميهم ، والجدار الحامي لجلاديهم ، والذين يريقون دمائهم في سبيل إرخاصها وإرخاص إنسانية ذويهم وأهليهم .
مكمن الغرابة في انبراء الأقلام للدفاع عن مريدي تحديد الكلمات وتنقيط الحروف وبما يتعارض مع حرية الكاتب ، ويتناقض مع ارادته .
ميدان الغرائب ثري بالنظر في طبيعة العلائق بين الأدعياء وأتباعهم وبما يجعل من الصعوبة بمكان فك شفراتها التي أشبهت الطلاسيم والتنجيمات التي وضعها المنجمون بين يدي المعتصم لإثناءه عن غزو الرومان ..لينبري أبو تمام راسما ملامح الحل الناجع في تلك الحالة واشباهها بقوله :
السيف أصدق إنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب .
وهاهو الجيش الوطني اليوم يقوم بالمهمة التي اقتنع بها ، ويجسدها أمرا واقعا لفك شفرات تلك العلائق المستغرَبة والتي أودت باليمن واليمنين إلى هذا الواقع الشاذ ، لتحدث لهذا الواقع صناعة تحويلية باستمرار الجيش في مهمته المقدسة التي ستجعل الواقع مستساغا… وحينها لن يخاطب اليمنيين الا من اختاره اليمنيون ، ولن يتكلم باسمهم الا الحائز على تفويضهم .