قرر أهل حضرموت، في مؤتمر حضرموت الجامع، اختيار الفيدرالية كشكل وحيد لنظام الحكم/ نظام السلطة، بديلاً عن ما كان يُعتقد أن حضرموت ستسير فيه: مغادرة فكرة اليمن.
لا تشبه حضرموت صنعاءَ في شيء: من التاريخ إلى قاموس اللغة، من ملامح الجسد إلى نشاط الانفعالات النفسية، ومن النظام الزراعي إلى النظام العقائدي. إنها لا تبدو، عند وضعها جوار صنعاء، كدولة أخرى وحسب، وإنما دولة بعيدة أيضاً.
في "المؤتمر الجامع" اختار الحضارم وضع حد للجدل الدائر في محافظات الجنوب المحررة حول المستقبل السياسي لتلك الجغرافيا. بدا واضحاً أن حضرموت لم تنصت كثيراً سوى لنفسها، وأنها تجاهلت خطاب الحراك الجنوبي والخطر الحوثي معاً. كما قدمت نفسها في صورة بالغة الاستقلال عن مركزية عدن أو صنعاء، وألمح بيانها الأخير إلى احتمال أن تذهب وحيدة في خياراتها إذا لم تؤخذ رغبتها الراهنة، وقد تتغير مستقبلاً، بجدية.
كان الحراك الجنوبي، وقد تطورت رؤيته للجزء الجنوبي من الأزمة اليمنية إلى الانفصال، يريد من حضرموت أن تفتح له الباب الذهبي إلى دولة الجنوب، بما لحضرموت من وزن نوعي لا يمكن كبحه. فضلاً عن أن دولة مستقلة في الجنوب بمعزل عن حضرموت لن تكون أكثر من سلطَنة صغيرة، ستجذب المتحاربين أكثر من المستثمرين. بينما وضع المواطن العادي في الشمال، الذي آمن بنزاهة الإنسان الحضرمي وعبقريته، يده على قلبه. فليس شأنا يسيراً أن تذهب حضرموت بعيداً وتعطي ظهرها لباقي الناس. بقيت حضرموت الآن في مفترق الطرق. فالبيان الختامي لم يشر إلى اسم اليمن بصورة مباشرة، لكنه أيضاً لم يشر إلى أي مستقبل محتمل لحضرموت داخل فكرة "دولة الجنوب" التي يعمل الحراك الجنوبي، بتكوينه الموزاييك، على إنجازها، ولو خطابياً.
على مر التاريخ كانت مشكلة اليمن تكمن، أساساً، في مركزيتها. فقد استطاعت قلة طائفية أن تحكم الجزء الأكبر من اليمن من خلال السيطرة على المركز، صنعاء وما حولها، لقرون طويلة. ولأسباب تاريخية أُحيط ذلك المركز بتجمع سكاني كبير مقارنة بباقي اليمن. فبينما تبلغ مساحة حضرموت حوالي عشرين ضعف مساحة ذمار، المحيطة بصنعاء، فإن سكان الأخيرة أكبر.
من غير الممكن أن يدار بلد معقد، من الناحية الجغرافية والتوزيع الديموغرافي، عبر مركز واحد. كما أن ذلك المركز، وسرعان ما يسقط في قبضة القبائل المحيط به، ينزلق في العادة إلى قبيلة. فلم يمض سوى وقت قصير حتى آلت الجمهورية اليمنية، جمهورية ١٩٦٢، إلى قبيلة تزيد أو تقل.
كانت القبيلة، دائماً، هي الشكل الأخير للدولة، لا العكس. فبعد حرب كبيرة، ممتدة وعنيفة، خاضها الجمهوريون وحليفتهم مصر استقرت الجمهورية اليمنية على هيئة قبيلة. شوهد، في وسط صنعاء، قصر الشيخ الشائف وهو يفوق قصور ملوك الرومان، بينما لا يزال البرلمان اليمني حتى الساعة بلا مبنى، إذا ما تجاهلنا ذلك المنزل القديم المتهالك في صنعاء القديمة. الشائف هو الشيخ القبلي الأكثر بروزاً. يحضر قصره في صنعاء، بأسواره الشاهقة والممتدة، كتعبير نهائي عن الشكل الذي آلت إليه جمهورية اليمنيين.
كانت حضرموت جسورة، حتى إنها تفوقت على نفسها ومخاوفها التاريخية العميقة، وشكوكها المنهجية. فالعودة من جديد إلى "جمهورية الشائف" هي مخاطرة تنطوي على بُعد انتحاري. كما أن القبيلة، بنظامها البدائي وآليتها النفسية الاندفاعية والأنانية، ليست مُعدة لإنجاز نشاطٍ يفضي إلى الخير العام. فلم يكن الشائف ولا الأحمر شيخين ينتجان البضائع، ولا الخدمات. لكنهما، رغم ذلك، راكما ثراءً بورجوازياً لا يمكن وصفه سوى بكلمة واحدة "السطو".
في المرة الأخيرة التي زرت فيها صنعاء، قبل سقوط الجمهورية بشهرين، تجولت بسيارة حول قصر الشائف، ورأيت جموعاً من الناس يمرقون عبر باب كبير في أحد جوانب السور، ويختفون. توقفت أمام الباب، فأخبروني أنهم ذاهبون إلى مسجد خلف الأسوار، يقيمون الصلاة فيه. فالقبيلة لم تسطُ على جمهورية اليمنيين وحسب، بل بنت من أموال ذلك "السطو" مساجد أيضاً. أُغلقت كل أبواب السور، وبقي باب المسجد مفتوحاً، في منظر يحيل إلى ما كتبه أدونيس في "أغاني مهيار" في مطلع ستينات القرن الماضي "كلنا في بلادي نصلي، كلنا نمسح الأحذية".
هكذا عُمِرت صنعاء بكل ما هو زائف: من الجمهورية إلى المسجد، ويُراد لذلك النموذج ـ الذي باشرت حضرموت بنسفه ـ أن يستمر بشكل ما، وإلى الأبد.
الحرب الراهنة، في بعدها المركزي، هي محاولة من المركز الأوليغارشي لإخضاع باقي اليمن لهيمنته، وجعل تلك الهيمنة مستدامة. فقد وقعت بعد انتهاء الحوار الوطني وإنجاز الدستور الجديد. ذلك عنى للمركز، بتشكيلته الأوليغارشية من السلالية والطائفية والقبلية، أمراً شبيهاً بتحويل طريق القوافل أو مسار الأنهار. ورغم حروب شرسة حدثت داخل ذلك التشكيل الأوليغارشي، خلال العقدين الأخيرين، فقد استطاع أعضاؤه إنجاز تسوية تاريخية بُغية الإحاطة بخطر يتهددهم جميعاً، منتصرين ومهزومين: تفكيك السلطة وإعادة توزيعها أفقياً. فرفاهيتهم مشروطة ببقاء اليمن ريفاً.
عزم حضرموت على المُضي في الطريق الفيدرالي هي مساهمة كبيرة في الحرب، أو في الطريق إلى حسمها. فعندما يتحدث صالح عن الحرب فهو يفهمها، كما في كل خطاباته تقريباً، على محورين: مواجهة العدوان الخارجي، ومواجهة الفيدرالية. الضربة القادمة من حضرموت هدفت إلى إخصاء ذلك المركز. توزيع السلطة أفقياً سيؤدي، مع السنوات، إلى إعادة توزيع السكان أفقياً أيضاً. فمن المتوقع أن تحدث هجرات متلاحقة من الجبال تجاه حضرموت وشبوة ولحج والحديدة، هناك حيث ستنهض أشكال جديدة للحياة والسوق واللغة.
الأموال التي راكمها الشائف فتحت فرصة للمصلين، لا للعاطلين عن العمل. فهو مال لا يخلق الوظائف، ولا يساهم في إنعاش الحياة العامة. كما أنه مال لا ينمو من تلقاء نفسه، فهو بحاجة إلى أموال جديدة، تُحصل بالطريقة نفسها، لينمو. حتى يستمر قصر الشائف عامراً ومضيئاً ودالاً كان لا بد من بناء الجيش بطريقة خاصة. فبحسب تقرير للجنة الدفاع والأمن في الحوار الوطني فقد التحق عدد ٥٤ فرداً من حضرموت بالكليات العسكرية، بين عامي ١٩٩٤ ـ ٢٠١١، مقابل حوالي ١١٥ ألف ضابط وعسكري ينتمون إلى محافظة ذمار. هُندست اليمن بطريقة تجعل منها ريفاً كبيراً يحيط بمنطقة خضراء صغيرة. وفي فترات بعينها نُظر إلى ذلك الريف بوصفه أرضاً غير مأهولة.
ها هي الحرب مكشوفة، وتقول كل شيء. فالألوية العسكرية التسعون، وفقاً لتقسيم الجيش اليمني، تقاتل على بكرة أبيها إلى جوار الحوثي وصالح. نحن بإزاء جهد تاريخي يقوم به ذلك التحالف البربري، القبيلي، للقضاء على فكرة الفيدرالية. ثمة أعداء متخيلون، أميركان وإرهابيون، يستخدمهم إعلام تحالف السطو للتعميةِ عن العدو الحقيقي: الفيدرالية، التوزيع الأفقي العلمي للسلطة. كما إن أي تسوية سياسية للحرب من شأنها أن تفضي إلى تنحية فكرة الفيدرالية لن تكون سوى إعتراف شامل بأن صالح/الحوثي الذي خسر الحرب قد كسب المعركة.
على حضرموت أن تمضي في طريقها الفيدرالي، وأن تجعل من فرصة أن يكسب الحوثيون، وحلفاؤهم، المعركة أمراً بعيد المنال. داخل أي تسوية قادمة لا بد وأن تصبح "جمهورية الشائف" شكلاً من الماضي، وأن يوصف تاريخ تلك الجمهورية بالبدائي واللاإنساني.
*مدونات الجزيرة