تنفجر الأوضاع في عدن عسكرياً من وقت إلى آخر، خصوصاً في المطار الذي يغلق بين وقت وآخر في معركةٍ مسلحة للسيطرة عليه، وهي نموذج مكثف لمعركة السلطة، وتجدد دائرة الثارات في الجنوب. ففي كل يوم كانت تغيب فيه سلطة الرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته عن المدينة، المحرّرة من سيطرة الحوثيين منذ قرابة عام ونصف العام، كانت تتعزز سلطة المليشيات المتعدّدة داخل المدينة، ما ينذر بصراع عسكري مسلح ضخم مؤجل، وليست معارك المطار سوى مؤشرات أولية لهذا الوضع الكارثي للمدينة التي ملأت فراغها المليشيات المختلفة.
لم تتم معالجة الوضع سياسياً بشكل مبكّر، وصار متأخراً إدراكه، ولا سيما مع التعويل المبالغ فيه على الخارج، خصوصاً الإمارات التي ذهب المتخاصمون على المطار إليها لحل خلافاتهم، ثم لحقت زيارةُ للرئيس هادي، بدا واضحاً من الاستقبال الباهت له في أبوظبي أنها زيارة لن تثمر عن شيء، وإن الإمارات حسمت أمرها في الانحياز نحو الطرف الآخر.
يتخصص هادي بالفشل، ويبرع في وضع نفسه والبلد في مأزق خطير، بسبب خموله، ما أحدث مساحات فراغٍ، لا تملأها سوى الجماعات الدينية والمليشيات المختلفة، لكن الحل في مواجهة هذا الوضع ليس تحدّي هادي وتقويض سلطته، خصوصاً أن البديل السياسي المنظم غير موجود، بل مزيد من الفوضى. تقويض مرجعية هادي السياسية والشرعية يعني غياب أي مرجعية، ليصبح التصارع على السلطة محكوماً بالسلاح، لا الأطر السياسية والدستورية المتفق عليها، في وقت يعاني فيه الجنوب من تعدّد الجهات المسلحة، إضافة إلى المخاوف المتزايدة من تمدّد تنظيماتٍ، كالقاعدة وداعش، ما قد يفتح الباب لتدخلات خارجية واسعة، تزيد من تعقيد الوضع.
"الاستقواء بالسلاح يدفع إلى مزيد من التدخل الخارجي، وكلاهما السلاح والتدخل الخارجي لا يفعل شيئاً سوى تعميق حالة الصراع في ظل توازن قوى عسكري، لا يسمح بالحسم"
يخطئ الإماراتيون وحلفاؤهم في اليمن، عندما يفترضون أن الحل يعني تجاوز هادي، لا طرح حلول في إطار سلطته، تقلل من مخاوفهم، فإذا كانت المخاوف من سيطرة حزب الإصلاح على محيط الرئيس هادي، فمن حق القوى الأخرى الضغط سياسياً لتخفيف هذا الوجود ضمن مطالب واضحة في الشراكة بالسلطة، ضمن توزيع واضح للمهام، من دون توهم إمكانية إقصاء فصيل الإصلاح وغيره، خصوصاً أن هذه أمور لا يمكن حسمها، فالجميع مسلح، والتوازن العسكري يمنع تحقيق فكرة الإقصاء أو التفرّد بالسلطة. من الممكن جداً معالجة ضعف أداء الرئيس، بتعيين نواب جدد أو تشكيل مجلس رئاسي، وتفعيل عمل بعض مؤسسات الدولة بفاعلية أكبر، وهذه كلها أمور لم تكن مستحيلة، والسعي نحوها لم يكن طريقه مسدوداً، حتى تصل الأمور إلى الانفجار العسكري، لكن الأوهام التي تسيطر على كل فريق هي التي أوصلت الأمور إلى هذا الحد.
ترتكب الإمارات خطأ كارثياً بالتدخل في استقطابات الجنوب، بخفةٍ سياسية، سواء بسبب عدائها الإخوان المسلمين، أو حماسها المندفع نحو دعم الحراك الجنوبي بفروعه المتشدّدة التي تدعو إلى الانفصال الفوري. انفصال الجنوب محكوم بحسابات إقليمية ودولية، ليست ميالة، في معظمها، إلى هذا الخيار، خصوصاً أن الوضع الداخلي للجنوب لايزال مرتبكاً، لأن معظم الفصائل الجنوبية التي تسعى إلى مطلب الانفصال لم تفلح في ترتيب أولوياتها، والتي يفترض أن في مقدمتها ترتيب أوضاع الجنوب، تمهيداً لتحقيق مطلبها السياسي. لذا، لن يفعل الاندفاع نحو الخصومة مع هادي شيئاً سوى كسر السلطة الشرعية، ما قد يجر الجنوب إلى مزيد من الفوضى المسلحة بين فصائل متوازنة عسكرياً، ولا يمكن لأحدها حسم الأمور، غير أنه موقف متناقض كلياً مع المبرر الإماراتي لدخول حرب اليمن، وهو إعادة السلطة الشرعية.
تظل المشكلة الأكبر في الجنوب، وسبب عمق صراعاته وطبيعتها الثأرية، هو الانقسام المناطقي، فهي ذات التمترسات التاريخية للصراعات في الجنوب، حيث يغلب على قوات محافظ مدينة عدن ومديرها الأمني أبناء الضالع، بينما يغلب على الحزام الأمني المتحكم بمداخل المدينة ومخارجها أبناء يافع، بينما يعتمد الرئيس هادي في قوات الحماية الرئاسية وغيرها على أبناء مدينته أبين بدرجة كبيرة.
إرث الانقسامات المناطقية في الجنوب قديم، وهو كان الأساس الذي ارتكز عليه الاحتلال البريطاني مدة تفوق مئة عام، من خلال تعزيز هذه الانقسامات، تساعده في أوقات كثيرة الجغرافيا الواسعة الخفة، والتشتت السكاني، وكذلك الطابع القبلي، أو البدوي، لمعظم مناطق الجنوب خارج عدن، غير سطوة حكم الإمامة، أو العثمانيين في الشمال، عاملاً منفراً للجنوبيين من بديل البريطانيين.
يحمل هذا أيضاً في طياته تجدّداً لصراع الجنوب الدامي في عام 1986، والذي أسفر عن مقتل آلاف خلال أسبوعين دمويين، شهدهما الجنوب في يناير/ كانون الثاني 1986، وأسفر عنه إقصاء الفصيل الذي تغلب عليه منطقتا أبين وشبوه، واللتين تلقفهما الرئيس السابق علي صالح بترحاب، واستثمر هذا الانقسام الجنوبي بمهارة استثنائية، حصد ثمارها في حرب 1994، حيث دخلت قواته الجنوب من خلال هذه القوات الجنوبية المنهزمة في حرب 1986، ولولاها لما استطاع حسم المعركة لصالحه بتلك السهولة.
هذه نتيجة طبيعية لتصرفات المنتصر في حرب 1986، والتي غلب عليها الطابع الثأري من إقصاء واستيلاء على منازل المهزومين، لكن هذه التصرفات لا تقوي من وضع المنتصر الذي أصبحت سلطته في مأزق سياسي كبير، دفعها إلى الهروب نحو الأمام بالوحدة مع الشمال. ومن مفارقات الزمان إن الطرف الجنوبي الذي اتفق على الوحدة مع خصمه الأيديولوجي في الشمال اشترط خروج السياسيين الجنوبيين الذين يمثلون الفريق المنهزم في حرب 1986 مما عمق الخصومة الجنوبية، وبالتالي كان لابد من معركة ثأرية مقبلة.
"تصور إن حل مشكلة الجنوب في الانفصال عن الشمال، أو الفيدرالية، يتجاوز حقيقة أصعب تجعل من كل هذه الخيارات السياسية محكومة بالفشل"
هادي يمثل الآن الطرف المنتصر من حرب 1994، بينما الطرف الآخر هو المهزوم في آخر المعارك، والذي خرج يوماً ما ضد الرئيس السابق صالح، ليطالب بحقوق الجنوبيين الذين تعرّضوا لإقصاء وتهميش واسع بعد حرب 1994، هذا غير مظالم نهب الأراضي.
هادي مستنداً على شرعيته، وتعويله الدائم هو على الخارج لإنقاذه من السلطة مع دعم بعض الفصائل السلفية، إضافة إلى "الإخوان المسلمين"، وكذلك دخوله لعبة الاستقطاب المناطقي، بتوظيفه أبناء محافظته أبين، وفريق آخر مقابل متعدّد بين فصائل دينية، أو تنتمي إلى الحراك الجنوبي، تعتمد على إرث نضالها ضد سلطة الرئيس صالح، سلطة منتصري حرب 1994، أو مقاومتها المسلحة للحوثيين وقوات صالح عام 2015، مع تعويل آخر على الخارج.
تصور إن حل مشكلة الجنوب في الانفصال عن الشمال، أو الفيدرالية، يتجاوز حقيقة أصعب تجعل من كل هذه الخيارات السياسية محكومة بالفشل، وهو عدم الشروع بخطوة التصالح بين الجنوبيين، لتجاوز دائرة الثأر بين مناطقه المستنفرة عسكرياً بشكل غير مسبوق. التصالح خطوة لا تتم بخطاباتٍ وصور تصافح، كما تفعل مهرجانات الجنوب في أثناء المناسبات. ليس التصالح حالة نفسية، بل هو مشروع سياسي وطني، يتطلب الكثير من الصراحة والجرأة، للوصول إلى أطر قانونية، تحقق العدالة للضحايا في الحروب السابقة، وأطر سياسية من خلال اعتراف الجميع بعدم إمكانية انفراد أحد بالسلطة، وضرورة المشاركة بين الفصائل المختلفة، من دون تعويل كلي على الخارج.
الاستقواء بالسلاح يدفع إلى مزيد من التدخل الخارجي، وكلاهما السلاح والتدخل الخارجي لا يفعل شيئاً سوى تعميق حالة الصراع في ظل توازن قوى عسكري، لا يسمح بالحسم، وسيؤدي إلى كارثة حقيقية، لن تستفيد منها سوى القوى الدينية المتطرّفة، وستثقل على المواطن البسيط، والذي لا يجد مصالحه ومستقبله حاضرين في كل هذه الصراعات الثأرية والعبثية بالضرورة.
*العربي الجديد