أنا مشتت. أريد أن أكتب ولا أعرف عن ماذا أكتب؟ الاقتباسات جاهزة من باب الاستعراض المعرفي، ولكن ما أسوأ أن تملك اقتباسًا جيدًا ولا يوجد فكرة تتضمن هذا الاقتباس. يقول سيوران: حذار من المفكرين الذين لا تعمل عقولهم إلا انطلاقًا من الاقتباس. وأنا لست مفكرًا أنا فقط أحاول أن أكتب.
حاولت أن أكتب حول الموت على هامش الحرب: الموت بنقص مستلزمات غسيل الكلى، الموت لعدم توفر المال لشراء أدوية القلب، الموت دهسًا بالأطقم المدرعة. تتزاحم الأفكار ثم تبدو مستهلكة، قلت سأكتب عن الراتب باعتباره فقيداً راحلًا تلوك الألسن ذكراه الطيبة في مجالس العزاء، خشيت أن تختزل الفكرة بحالتنا نحن، باعتبار أن راتب الوالد هو الدخل الوحيد للأسرة، تذكرت قصة ماركيز "ليس لدى الكولونيول من يكاتبه"، البطل الجمهوري كولونيول متقاعد يبحث عن راتبه من بريد إلى بريد، عيشة تعسه يعيشها الكولونيول مع زوجته، يقول لموظف البريد أنه يجب أن تصله الرسالة "حوالة الراتب"، فيرد عليه الموظف: الشيء الوحيد الذي يصل بكل تأكيد هو الموت أيها الكولونيول. الراتب هو المصدر الوحيد، إذن يعرضان مقتنايتهما للبيع من البرواز الكبير إلى خاتم الزواج، يعلق كل أمله على فوز الديك برهان صراع الديكة. لا يصل الراتب ولا يتم هذا الصراع ولا يرضى أحد أن يشري المقتنيات.
أحيانًا تعجني النهايات المفتوحة على كل الاحتمالات..
أحيانًا أكره النهايات بلا سبب.
لا تتم فكرة الكتابة عن الراتب، أترك الورقة نصفها وأنا مشتت.
شرعت أكتب عن أزمة المثقف اليمني وسط هذا الفراغ الكاسد، في النصف اكتشفت أني أكتب عن الوجوه المتقفزة على محطات التلفزة وأوراق الصحف، بالتحديد عن أولئك الذي صاروا حملان وديعة في حضن المليشيا: لماذا وصفوا جرحى تعز الذين سافروا إلى تركيا بالدواعش؟ هل يحسدون الطفل الجريح صاحب الساق المبتورة، الذي وصل يلاعب بعكازه ندف الثلج. هناك ثلج في بيروت على ما أظن، المثقفة الماكثة هناك تملك ساقين سليمين، ما الذي يجعلها تصف طفلًا تعزيًا يقف بساق واحدة بالمرتزق والتكفيري وهلم جرًا من التهم الجزاف الذي يطلقها عبده الحوثي من كهفه؟
أحيانًا تحصل على معلومة، وبناءًا عليها تتفيقه بسرعة وبلا تؤدة فيفضحك طفل.
الصحفي الذي تغنى ببؤسه طويلًا، والذي كان شاعرًا يحب مظفر النواب، صارت لديه صحيفة مؤثثة من المكاتب المنهوبة. ولذا أصبحت الحالة التي كتبتها المثقفة من مأواها الدافئ عنواناً على غلاف الجهبذ: تركيا تنقل الدواعش!
كل الأفكار تبدو مستهلكة، صحيفة الجهبذ الخادع لقرائه برطانة الكلمات، تلهمني الكتابة عن الصحف المغيبة، عن عمالها الذي شتتتهم المليشيا شذر مذر، عن النهب والاستيلاء.
الحياد بخصيصته المهنية جيدًا. هل لهذه الجملة معنى؟ قصدت أني سأتحامل على مليشيا الحوثي لأنه يختطف الصحفيين، والتحامل يلغي الحياد. لن أكتب. من أنا لأكتب.
الورق منثور حولي، السواد يغطيها إلى النصف، التلفزيون مفتوح والصمت مخيم على الجالسين عن الساعة السليمانية، المخلوع على عبدالله صالح يقول في اجتماع بمكان غامض: حافظوا على أمن واستقرار بني حشيش.
ضحك حد الاشتراغ، رشفة الشاي تتحول إلى رذاذ.
صوت من أسفل المكان: إيه كشفك قصفك..
الوحش الشرير يتضاءل. هل هذه فكرة جيدة للكتابة؟
هذا ما كان ينقصنا.. أن نفتتح بسيوران ونختتم بصالح، إن جملته ليست بسيطة، يصلح كاتب شذرات، يقول صالح: "حافظوا على أمن واستقرار بني حشيش"
تصلح هاشتاج.
* نقلاً عن يمن مونيتور