يطلق مصطلح حرب الاستنزاف في العالم العربي حصرا على المعارك التي دارت بين القوات المصرية والإسرائيلية إبان هزيمة يونيو تموز 1967، لكن دلالته أوسع وأكبر من هذا الحصر التاريخي للمصطلح في تلك الحقبة الزمنية.
وهذا النوع من الحروب هو ذلك النوع غير القابل للحسم من أحد الطرفين عسكريا في المدى الزمني القصير أو المتوسط وبالتالي فإنه يحدث نوعا من الإنهاك واستنزاف المقدرات العسكرية والبشرية فضلا عن تدمير واسع للمدن والبلدات بما فيها البنية التحتية إذا كانت رحى المعارك تدور داخل المناطق السكنية.
وقد يكون هدف الحرب محصورا منذ البداية في هذا الغرض، إذا كان أحد الأطراف يريد فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة رص الصفوف استعدادا لجولة جديدة. وقد يحدث أيضا من دون تخطيط مسبق، فتجد فيها جيوش ومليشيات مسلحة نفسها في وسط هذه الحرب بسبب عدم التخطيط العسكري الكافي ووضوح الأهداف.
ويطلق على معارك الروس والألمان في ستالين غراد في الحرب العالمية الثانية حرب استنزاف، كما تعتبر أيضا العمليات العسكرية للفرنسيين والبريطانيين ضد الألمان في منطقة فردين وبلدة لاسوم شمال فرنسا من قبيل حروب الاستنزاف في الحرب العالمية الأولى.
وإذا طبقنا هذه المعايير على الحروب الدائرة في العالم العربي الآن سنجد أن معظم المقدرات العسكرية العربية يتم استنزافها في حروب هنا وهناك. ونحن هنا لا نقيم المنطلقات الأخلاقية للمعارك الدائرة ولا الموقف السياسي منها، لكن من زاوية الرؤية والأهداف سنجد أننا أمام عدة حروب استنزاف تدور في أكثر من بلد عربي.
على الصعيد السوري مثلا، تورط حزب الله في هذه المعارك ولا يزال يستنزف قدراته البشرية والعسكرية، والأهم من هذا سمعته في العالم العربي كحزب سياسي مقاوم لإسرائيل.
ومن غير المرجح أن حزب الله سيخرج منتصرا من هذه المعارك. هذا إذا كان هناك تعريف واضح للنصر أصلا. فهل بقاء بشار الأسد مثلا ومزيد من قتل المدنيين السوريين وعمليات التهجير القسري للسنة يعد انتصارا لحزب لبناني المفترض أنه مقاوم؟
الأمر نفسه ينطبق على روسيا التي تقف معه في نفس الخندق المؤيد للنظام الروسي. ولا أدري سر شغف الروس تاريخيا بخوض حروب الاستنزاف خارج حدودهم. وهي حروب أثخنتهم سابقا وغالبا ستثخنهم هذه المرة.
لقد مر الروس بتجربة مريرة مع احتلال فيتنام ولم يتعلموا الدرس ثم مروا بتجربة أخرى مع أفغانستان وأيضا لم يتعلموا الدرس، ويعيدون الكرة نفسها الآن في سوريا.
وغير بعيد عن سوريا نجد أن الجيش المصري يخوض حرب استنزاف داخلية يستهلك فيها سمعته كجيش كبير في العالم العربي يعتبر سلاحه دفاعا عن العروبة ولو من الناحية النظرية، ويعتبر نفسه شقيقا للجيش السوري منذ الوحدة، على الأقل عن طريق التسميات.
فكثير من الناس يعرفون الجيش الثاني والثالث الميداني المصري ولا يدرون أن الجيش الأول هو الجيش السوري منذ الوحدة مع سوريا في الحقبة الناصرية. ففضلا عن استنزافه جزءا مهما من قواته في حرب العصابات الدائرة في سيناء، فإنه متورط في تجربة حكم داخلية يستفرد فيها بالسلطة ولا يبدو أي أفق نجاح لها.
الأمر الذي يشير بوضوح لاستنزافها المباشر والمستمر من رصيده لأنه ولأول مرة يدخل في صراع سياسي وعسكري مباشر مع المدنيين. ولسنا في حاجة لشرح المزيد عن تجربة المعارك في اليمن لأنها واضحة لكل ذي عينين.
هذا النوع من المعارك المختلفة غير محسومة النصر لكل هؤلاء وتمثل استنزافا كبيرا لمثل هذه المقدرات. وهذا لا يحدث بالضرورة نتيجة مؤامرة. فالمؤامرات دائما موجودة وهي الاسم الشعبي لاستراتيجيات الخصوم التي لا ينبغي التذرع بها للتحلل من القيام بالواجبات السياسية والاستراتيجية اللازمة.
إن الذين ورطوا كل هذه المقدرات العسكرية عربيا لحروب الاستنزاف تلك مسؤولون ولا شك عما ستؤول إليه الأمور.
فالنصر العسكري الحاسم ليس واردا والخسارة الكبرى يمنى بها هؤلاء قبل خصومهم الذين هم مليشيات مسلحة أو مدنيين. وحروب الاستنزاف العشوائية هي أسوأ ما يمكن أن يمر به شعب من الشعوب لأن المنتصر فيها هو مبدأ الإنهاك لا غير.
عربي21