منذ استعار الحرب في اليمن في 26 آذار/ مارس 2015 يعيش المثقف في هذا البلد أزمة حقيقية بين ما يمارسه اليوم، مقارنة بما كان يدعيّه بالأمس وهو ما تجلت معه حالة كبيرة من الزيف تكشفت عنها مواقفه المنحازة للحرب ضد الإنسان مسجلاً تراجعاً كبيراً عما كان ينادي به من مواقف مدنية حداثية، ومقابل ذلك غابت المنصات ممثلة في المؤسسة الثقافية كتعبير قوي عن الثقافة والمدنية لصالح حضور قوي لتكوينات ما قبل الدولة والمدنية.
على صعيد المثقفين أرخت الحرب ظلالها على الحياة الثقافية فانقسم المشهد الثقافي بعصبية غير مسبوقة بين طرفي الحرب حدا تكاد تختفي معه مفاهيم الوطن والإنسان والحرية من قاموس مواجهاتهم وأصبحوا معنيين أكثر بالإقصاء والإلغاء بلغة تكشف أنهم تخندقوا عسكرياً وتماهوا بطرفي الحرب وبلغوا، في ذلك، مرحلة نسوا مشاريعهم الإنسانية التي كانوا يتباهون بها قبلاً… فيما آثرت المؤسسات الثقافية، التي كانت تمثل أهم مفاعيل المشهد الثقافي اليمني قبل الحرب، الاختفاء والتراجع وإغلاق أبوابها تحت أزيز الرصاص، باستثناء بضع منصات لم تجد مناصاً للاستمرار في تنظيم أنشطة ثقافية سوى العمل بشكل مجرد من أي موقف يقترب بها من السياسة.
مقابل ذلك أفرزت الحرب تكوينات ثقافية بوعي فئوي مناطقي عصبوي تنتمي إلى ما قبل ظهور الدولة الحديثة، وهي التكوينات التي أصبحت تشتغل على تجيير المشهد والموقف الثقافي لصالح أحد طرفي الحرب، لدرجة بات معظم المثقفين الذين تظهر أصواتهم في وسائل الإعلام – للأسف – يدعون لاستمرار الحرب ويرفضون إيقافها تحت عناوين الانتصار والقوة؛ وهي عناوين تبرز مدى الوهن والضعف الذي تراجع بوعي المثقف، وصولاً إلى أتون العصبية، التي هي في مضمونها تقف في مواجهة إنسانية الإنسان وتنحاز لنظامها الاستبدادي استناداً إلى مفاهيم القوة والامتياز في مواجهة ما يعتبرونه (عار) الهزيمة و(عيب) الاستسلام حتى لو كان الثمن مزيداً من الدماء والدمار. وهنا يتبدى المثقف العصبوي بإسهامه في إشاعة ثقافة الاستبداد والكراهية والإقصاء صادماً للوعي الحداثي، خصوصاً مع تبني بعض المثقفين حملة ضد البعض الآخر من المثقفين الذين اختاروا الانحياز لإنسانية وحرية المواطن والوطن ضد أطراف الحرب.
كما ظهرت صورة أكثر عتمة للمثقف اليمني في مواقف بعضهم الذي انحاز فيها سلالياً ومناطقياً وفئوياً بشكل واضح وفج بينما كانوا في مرحلة سابقة من أشهر العناوين المحسوبة على التيارات الحداثية والمدنية واليسارية، بل إن بعضهم اصطف مع ما وصف بتهجير أبناء الشمال اليمني من مدن الجنوب، وظهر بعضهم يكتب مؤيداً التهجير القسري منحازاً مناطقياً بأسلوب يغيب فيه الوعي الإنساني تماماً، ما يجعلنا لا نميز بين خطايا المثقف في صنعاء المنحاز، في بعضه للسلالة، وفي عدن المنحاز في بعضه للمنطقة؛ فجميعهم لا ينظر بعين الإنسان للمعاناة والمشكلة اليمنية.
لقد فَقَد المثقف اليمني، في هذه الحرب، صوته ومنصته؛ وعلى الرغم مما قدمه من تنازلات وارتكبه من أخطاء لم يتجاوز– وللأسف – صدمة الانقلاب واندلاع الحرب؛ وهي الصدمة التي ما يزال يرزح تحت وطأتها خوفاً وعوزاً واعتقالاً واغتيالاً، بل وتواطؤا وتشظياً وشتاتاً، ووصلت خساراته، في هذه الحرب، حد أنه فقد ما كان يعتز به، عبر مسار تاريخي من النضال، من صوت وشجاعة مناوئة للاستبداد منحازة للحرية؛ وهو ما يمكن قراءته بوضوح في مسار تاريخ أهم مؤسسات هذا المثقف ممثلة في اتحاد الأدباء والكتاب ونقابة الصحافيين، ومقارنة ما كانت عليه وما آل إليه وضعهما تحت نير هذه الحرب.
القدس العربي