ينتشرون في الصباح الباكر يتوجه اثنان إلى السوق للبحث عن عمل، ويتّجه الآخران إلى الشوارع لتجميع البلاستيك والقوارير من القمامة !
صور من قسوة الحياة لم يعرفها اليمن منذ ثلاثينيات القرن الماضي، بيوت تخفي داخلها أوجاعها، وبيوت عجزت عن لملمة فصول حكايتها مع الجوع والعطش، وبيوت عجزت حيلتها فصارت تبيع ما يمكن بيعه لتشبع المستورين خلف جدرانها، «الحرب أنهكت الجميع»هكذا قالت قريبة لي عندما أُحرقت مزارع زوجها في منطقة الضباب. في زمن الحرب تتكشف معادن الناس، هناك أنفس عفيفة لا تمتهن الكرامة وتفضل الموت بجوعها أفضل من البحث بين أكوام القمامة، وبيوت نفد ما ادخرته في السنوات المتتالية من الجرعات، أذكر مقولة لصديقة في صنعاء قبل سبع سنوات أي قبل الثورة الشبابية بعام واحد «اليمن لم يعد صالحا للحياة « لابد من اللجوء إلى المريخ فهو المكان الوحيد الذي سيمنحنا حق اللجوء، كانت صديقتي تتابع أخبار الفضاء ووكالة ناسا على أمل أن تسمع بالخبر الذي سيحل مشكلة اليمن، صديقتي ماتت رحمها الله بحالة نفسية حادة وذهبت إلى ملكوت الله، فهل على اليمنيين أن يستمروا في الحلم
! كتبت لي إحدى الصديقات أن كُتب والدها الدكتور التي جمّعها طيلة عمله في الجامعة والتي اشتراها من عدة معارض دولية لم تجد من يشتريها بعد أن أقتنعت والدتها ببيعها، قالت لها والدتها: من يشتري كتبا وبطنه فارغة!
صديقة أخرى كتبت لي : إن عيني والدتي أصـيبتا بضعف شديد فلم تعد قادرة على الخياطة، وكأنهما تعلنان حالة تضامن مع انقطاع الكهرباء المتواصل. وكتبت أخرى إن بقالة والدها «راكدة» فأهل الحارة جميعهم من الموظفين وينتظرون الراتب منذ شهرين.
كيس الدقيق بـ 6200 وكيس السكر بـ7000 ، وجرة الغاز منعدمة وإذا وجدت ففي 2700، ومن يمتلك ألفا يعد من الأثرياء ! الحوثي يدشن لحملة دعائية تحاول تمرير الأزمة وترويجها، كما عشنا بلا كهرباء نعيش بلا رواتب ، وينسى أن أكثر من نصف سكان العاصمة يعتمدون على رواتبهم الحكومية، من الموظف وحتى الدكتور في الجامعة. حاول بعض الناس أن يتأقلم مع انقطاع التيار الكهربائي بألواح الطاقة الشمسية، ولم يبحثوا كثيرا وراء البترول الذي صار يباع في السوق السوداء، حتى الغاز هو الآخر صار من الكماليات، ولولا رحمة الله ونزول الأمطار لمات الناس عطشا في عدد من المدن المحرومة من الماء.
ومع بدء العام الدراسي ظهرت أزمة الملابس المدرسية وقيمة الكتب التي لا توفرها المدرسة، فمكتب التربية والتعليم الرئيسي في صنعاء لم يطبع كُتبا للعام الثاني على التوالي، وما هو موجود يعد بقايا كُتب ممزقة ومستعملة، إضافة إلى حرمان الكثيرين من التعليم الأساسي بسبب هاتين المشكلتين( الزي المدرسي، والكتاب) فما قيمة التعليم إن لم يتوفر الكتاب وهو الحق الوحيد الذي يستحقه الطالب من مدرسته! وتجيء أزمة الكتاب والزّي المدرسي لتضيف معاناة جديدة للفئة القادرة علىإرسال أبنائها إلى المدارس، أما الفئة التي تبحث عمَّا يسدُّ رمق الحياة فهي لا تحلم بأكثر من رغيف خبز وكأس ماء!
سُلطة البلاد في حالة نوم سريري والناس في حاجة إلى إنعاش عاجل بعد أن شهدت بعض القرى حالات مجاعة ! التجار يقفون على حافة الحياد الجائر فلم تصدر منهم بادرة بتخفيض الأسعارأو فتح مخازنهم وتوزيع المواد المكدسة للجائعين على طول البلاد وعرضها في أزمة لم تشهد لها البلاد مثيلا. الخطيئة ليست في الحوثي وحده – الذي يعدُّ كارثة القرن – ، وليست زمرة الحكومات السابقة التي أكلت الأخضر واليابس بفعل الجرعات المتتالية التي لم تبق للشعب ما يدّخر، الخطيئة تعم كل من يرى الوضع الإنساني من المنظمات الأممية ولا يفعل شيئا يُذكر لحل معاناة الناس. «الجوع كافر» قالت لي أم صديقة في تعز بعد أن باعت سنتيها الذهب لتوفر طعاما لأبناء ابنتها المتوفاة بقذيفة حوثية، وقالت إحدى الصديقات من صنعاء:أنها رأت أستاذا فاضلا يجمع بقايا القوارير ليبيعها ويوفر قيمة طعام.
الخطيئة التي ارتكبها الحوثي لها أوزارها التي ظهرت في هشاشته القيمية قلبت الموازين، وصعدت بناس وخفضت آخرين، صديقتي الهاشمية تقول إن ابنة عمتها اشترت «فيلا» قرب خط الخمسين، ففي حين يبيع بعض المواطنين منازلهم وأراضيهم يشتري عدد من الحوثيين والحوثيات تلك المنازل والأراضي بثمن بخس.
الميليشيا التي جعلت من بائع القات رئيس دولة، وجعلت من الأطفال شرطة مرور يفتشون في جولات صنعاء، وصنعاء مغلوبة على أمرها لا تملك من أمرها شيئاً، وصارت ممرا للميليشيا لتوزع من خلالها الموت والجوع والحصار، وليشهد اليمن في عهدها أسوأ سنواته العجاف
القدس العربي