في الثامن عشر من مارس ٢٠١٣، وقف الشاب فهد كفايين القادم من جزر سقطرى، وألقى خطاباً مؤثراً أمام أعضاء مؤتمر الحوار الوطني في صنعاء. قال إنه ترك في الجزيرة أسرة فقيرة وبلا تعليم ولا رعاية طبية.
مئة ألف آخرون يقعون، كلياً، خارج أسوار الحياة المعاصرة، قال كفايين وهو يروي عن جزيرته. وعوضاً عن الشعور بالهلع راح الحاضرون يصفقون لكفايين عندما أخبرهم أن سقطرى لم تكن متضمنة في شعار الحوار الوطني، وكان على هيئة خارطة بيضاء لجغرافيا اليمن محاطة بالأسود والأبيض من جانبين.
احتج وفد سقطرى لدى الحكومة والحوار الوطني فأضيفت نقطة بيضاء صغيرة في المكان الذي يفترض فيه أن يكون سقطرى. في سقطرى يعيش مائة ألف من اليمنيين المنسيين.
يعتقد المفكر السياسي ياسين نعمان، في حواره الأخير مع الشرق الأوسط، أن نظام صالح اتجه جنوباً، بعد الوحدة، ليحول المحافظات هناك إلى صورة من تعز. لقد جرى تحويل الجنوب كله إلى اللامرئي من خلال: التمثيل الشكلي في الجيش ومراكز القرار، تحويل الجنوب إلى أرض رعوية، والإبقاء عليها كأراضي محكومة من قبل "المركز الطائفي"، وفقاً لتعبير نعمان. تلك سياسة قديمة، يعتقد نعمان، فعلت في كل أراضي الشمال، وأكثر بروزاً في تعز.
ولكي يتمكن "المركز الطائفي" من تفعليها في أراضي الجنوب، بعد الوحدة، لم يكن لديه من خيار سوى "تخريب الوحدة" عبر الحرب. فالمركز الطائفي، يذهب ياسين، لا يقبل اقتسام السلطة، ولا المشاركة فيها.
يعمد المركز الطائفي، بإصرار، على تحويل اليمنيين إلى غير مرئيين، مؤسساً لجزيرته الخضراء التي سيطلق عليها "اليمن"، سيكون هو "اليمنيون". في الأسابيع الأخيرة أقام الحوثيون بكائيات مطولة حول مقتل تسعة يمنيين في غارة لطيران التحالف العربي. دفعوا المنظمات المدنية، وهي تكتلات خاملة تعمل تحت رعاية المركز الطائفي، إلى إدانة قتل اليمنيين.
كان تقريران موازيان قد رفعا إلى الحكومة، يتحدث أحدهما عن مقتل أكثر من ٣ آلاف مواطن يمني على يد قوات الحوثي في أحداث غير قتالية، ويتحدث الآخر عن اقتراب عدد جرحى قذائف الحوثيين في تعز من العشرين ألف جريح. لم يسبق للحوثيين أن أبصروا ضحاياهم اليمنيين، فهم غير مرئيين.
وعندما اقتحموا محافظة عمران، في صيف ٢٠١٤، قتلوا في ليلة واحدة ما يزيد عن ٤٠٠ فرداً من الجيش اليمني، بينهم ضباط ذوو رتب رفيعة، بحسب تقرير لمركز أبعاد صادر في أغسطس من العام نفسه.
لم يجعل المركز الطائفي من اليمنيين شعباً غير مرئي وحسب، بل استطاع أن يحول دون أن تشكل الطبقة الوسطى، البورجوازية الناشئة، مركزاً مناوئاً أو وزناً ضاغطاً قد يهدد اسقرار تلك السياسة الأثيرة. عمل على الدوام على تفريغ الطبقة من قواها وعناصرها المركزية عبر أكثر من وسيلة، أبرزها شفطها إلى الأعلى لتصبح جزءاً من أدواته في عملية أطلق عليها "سارتر": الكلية المجزءة. حصل على رجال أعمال ومثقفين وساسة مكنوه، طوعاً، من إعادة برمجتهم إلى مماليك طوعيين لكنهم لا يقلون خطورة.
يطلق على تلك المحافظة "كرسي الزيدية". وبينما تتقارب المحافظتان في عدد السكان، إذ يتجاوز سكان كل منهما المليون بقليل، فإن مساحة أرض حضرموت تبلغ 190 ألف كيلو متر مربع، بما يعادل 24 ضعفاً لمساحة محافظة ذمار التي لا تتجاوز8 آلاف كم مربع.
على تلك الأرض الواسعة يعيش اليمنيون غير المرئيين، لا يشار إليهم سوى في حالتين: حين يجري الحديث عن المواطنين بوصفهم انفصاليين غير وطنيين، وعند الإشارة إلى الأرض كحقل نفطي. هذه الصورة الرقمية المريعة تمنح ياسين نعمان الحق في أن يذهب إلى الحديث عن المراكز الرعوية والمركز الطائفي.
في الحديدة يعيش زهاء 2.4 مليون نسمة في عزلة كاملة. في العام ٢٠١٠ تشكلت لجنة برلمانية للنظر في مأساة اليمنيين غير المرئيين في المحافظة. خلال عشرة أيام، فقط، كانت اللجنة قد أعدت تقريراً مذهلاً. تحدثت ديباجة التقرير عن وضع "يدمي القلوب ويندى له الجبين".
بدا هذا التعبير الكلاسيكي محاولة لغوية رثة لامتصاص صدمة القارئ. فقد استحوذ ١٤٨ شخصاً من رجالات الجبل، من المركز الطائفي، على الحديدة ولم يتركوا لـ 2.4 مليون سوى المقابر. قاضٍ ينتمي إلى أسرة صالح استحوذ على ٢٨٥ كيلو مترا مربعاً، وترك ما يكفي لرفاقه الآخرين. أثار التقرير شيئاً من القلق، ثم عادت الأمور إلى سابق وضعها. لا يملك اليمنيون غير المرئيين هناك، في الحديدة تحديداً، الحق في ولا القدرة على تغيير وضعهم البائس، فلا أحد يراهم.
وفي صعدة، حيث تتواجد محركات الحركة الحوثية، يوجد مشفى واحد وثلاثون سجناً، بحسب منظمة محلية قريبة من الحوثيين. يمكن للمرء التعرف على السجون، وكذلك المقابر بيسر. فقد دون عيدروس النقيب، رئيس الكتلة البرلمانية للاشتراكي، مشاهداته من صعدة بعد زيارة رسمية مع وفد رئاسي. أشار النقيب إلى أسوار ممتدة تحيط بأراضٍ فارغة، وعندما سأل عن طبيعة تلك المشاريع أخُبِر بأنها مقابر لم تستخدم بعد. كانوا يجهزون، لحروبهم القادمة، حتى المقابر. كانت تلك هي الفكرة التي عاد بها النقيب من هناك.
استحوذ الحوثي على صعدة وجعل من شعبها غير مرئي. وباستثناء المقابر والسجون فإن الحوثي، وجماعته الدينية، لا تعترف بإنسان صعدة، فهي لا تراه، وهو غير مرئي.
وقف فرانز فانون أمام بوابة العالم الثالث واستنتج، وهو يدون عن "المعذبين في الأرض": إنما يثور أولئك الذين لن يخسروا من ثورتهم سوى الأغلال. لم تصل الرسالة تلك إلى ذهن السلطانين الذين اقتسما اليمن "الحوثي وصالح". ففي العام ٢٠١١ امتلأت شوارع الجمهورية اليمنية بسيول ضخمة من اليمنيين، غير أنهم بالنسبة لصالح ونظامه كانوا غير مرئيين.
فالمركز المقدس لا يرى سوى ما يُريد، ولا يريد سوى نفسه، ولا يقدس من شيء سوى "رأسه". وما دامت تلك الرأس سليمة فكل شيء على ما يُرام، كما قال صالح قبل أيام معلقاً على سيرة الحرب الراهنة. قبل عامين دونت ابنة جنرال كبير، من المركز الطائفي، وهي تتذكر ٢٠١١: "كانوا يتحدثون عن الجوع وكنا نسمعهم ولم نكن نصدق." عاش اليمنيون غير مرئيين، وإن كان أحداً لا يبصر وجودهم فإن جوعهم أيضاً كان غير مرئي، مثلهم.
*مدونات الجزيرة