د.موسى قاسم
بعد حياة حافلة بالعمل السياسي والدبلوماسي الدؤوب ترجل أستاذ الدبلوماسية اليمنية المعاصرة الأستاذ غالب علي جميل يومنا هذا إثر مرض عضال لازمه لسنوات عديدة من عمره تاركا بصماته وأثره الطيب في كل الأماكن التي أرتادها والمناصب التي تقلدها رحمه الله.
ولد الفقيد لأسرة فلاحية بسيطة في قرية الأكروف بمديرية شرعب السلام, درس على يد كتّاب القرية ثم أنتقل إلى تعز وفيها تعلم وواصل تعليمه الأولي ليغادر بعدها إلى المملكة السعودية مواصلاً بحثه عن العلم حيث أكمل دراسته فيها وعمل فيها مدرسا لمدة خمسة أعوام في عقد الخمسينات المنصرم بعدها حصل على بعثة دراسية إلى أمريكا نال من خلالها على درجة البكالوريوس في السياسة والإقتصاد ثم عاد بعد ذلك إلى اليمن وألتحق بالسلك الدبلوماسي اليمني في مطلع الستينات حيث أمضى فيه فترة طويلة تزيد عن الخمسين عاماً سخّر خلالها كل جهوده وإمكانياته لخدمة الدبلوماسية اليمنية والعمل على عصرنتها والإرتقاء بها بما يتواءم ومتطلبات العالم الجديد المتغيّر.
لم يكن الفقيد دبلوماسيا عاديا كغيره من الدبلوماسيين اليمنيين والعرب بل كان مشروعا ثقافيا معرفيا دبلوماسيا واسعا ورحيبا ساهم بقوة في تطوير العمل الدبلوماسي اليمني وأخرجه من نطاقه التقليدي الضيّق إلى آفاقه الرحبة المعاصرة بعد ثورة سبتمبر الخالدة ساعده في ذلك ثقافته الواسعة وبراعته السياسية الرصينة وحنكته الدبلوماسية الفريدة إضافة إلى صفاته وسجاياه الحميدة التي عُرِف بها وأحبه الناس من خلالها ولأجلها.
تقلد الفقيد العديد من المناصب الدبلوماسية كنائب لوزير الخارجية في بداية الثمانينات ووكيل للوزارة في نهاية التسعينات كما عمل سفيرا في بلدان لها ثقلها الدولي والإقليمي وعاصر أحداثا مشتعلة في المنطقة العربية أثناء أداء مهامه حيث كان سفيرا في العراق في مرحلة التحولات العراقية ثم سفيرا في المملكة السعودية لأكثر من عشرة أعوام بدأها في العام 86م عمل خلالها على احتواء الكثير من الأزمات الدبلوماسية بين البلدين وسبر ما يمكن سبره من أغوار الخلافات العميقة في العلاقات اليمنية الخليجية ومحورها السعودية خصوصا في مرحلة التسعينيات التي شكلت تحولا مفصليا في العلاقات اليمنية الخليجية جراء غزو الكويت وما تبعه من حرب مدمرة في منطقة الخليج العربي, تلك الحرب التي كانت من أبرز التحديات التي واجهها الفقيد خلال مسيرته الدبلوماسية لما لها من تأثيرات تمس ملايين اليمنيين في بلد الاغتراب وتحديدا في المملكة العربية السعودية.
كان الأستاذ المرحوم سياسيا بارعاً ودبلوماسيا محنكا يشار إليه بالبنان، مثّل اليمن خير تمثيل في كل المناصب التي تبوأها والمحافل الإقليمية والدولية التي شارك فيها ممثلا لليمن الكبير بشطريه الشمالي والجنوبي، فكان سياسيا حصيفا اتسمت مواقفه بالحكمة وآرائه بالسداد. وعلى الرغم من أنه كان سفيرا متنقلا من دولة إلى أخرى لكن عقله وقلبه كانا في اليمن، اليمن التي سكنته رغم البُعاد عن ثراها، وعلى الرغم من ذلك، فقد حمل الفقيد همّ اليمن على عاتقه حيثما ولى وأرتحل، ولم يغب عن أحداثها اليومية يوما من خلال عموده الشهير في الصحافة اليمنية الموسوم بــ "شيء من السياسة" الذي كان يتطرق فيه لهموم الوطن ويعطي دروسا في السياسة الحكيمة وينقل من خلاله تجارب الشعوب المتقدمة الى وطنه علّ وعسى أن يكون هناك من أذن صاغية واعية لذلك.
غادر السفير الأستاذ غالب علي جميل بعد رحلة حافلة بالعطاءات الوطنية الخالدة والمخلصة التي سيتذكرها كل دبلوماسي يمني سيمر على طيف خياله اسم فارس الدبلوماسية اليمنية وأستاذها الأول، غادرنا السفير المُحنّك وقد قلَّد الدبلوماسية اليمنية حُللاً من البهاء والرفعة والسمو وأعطى لها كل "شيء من السياسة" والدبلوماسية والعمل النبيل.
وابلٌ من الرحمات تترى على روحه الطاهرة ونسأل الله له الرحمة والمغفرة والمنزلة الرفيعة في الجنة وإنا لله وإنا إليه راجعون.