د.موسى قاسم
لاقى صمود مقاومة تعز الكثير من الإعجاب والدهشة لدى الكثير من المتابعين للمعركة الوطنية التي تخوضها تعز منذ أكثر من عام ضد الإنقلابيين، ذلك أن مقاومة تعز رغم شحة الإمكانيات استطاعت أن تغير قواعد اللعبة وسير المعركة فيها، الأمر الذي حدا بالكثيرين إلى البحث عن سر هذا الصمود وعوامله وحيثياته وعلاقته بالبعد الوطني الذي ارتبطت به تعز على مدى تاريخها.
بعد ثورة سبتمبر أنخرط شباب تعز وإب والحديدة في مختلف تشكيلات الجيش اليمني الفتي، قوات الصاعقة، قوات المظلات، قوات العاصفة وغيرها من التشكيلات والوحدات العسكرية. كان ذلك أول دخول لهم بتلك الأعداد الكبيرة للجيش سيما وأن الحكم الإمامي أعتمد في حمايته طوال فترة حكمه على الهلال القبائلي الممتد من جبال صعدة وحتى ذمار.
ظل أبناء تعز في كآفة التشكيلات العسكرية بنسب متفاوتة رغم المحاولات المتعددة لإزاحتهم سواء بعد أحداث أغسطس 68 أو بعد أحداث 78 وخروج عبدالله عبدالعالم من صنعاء بقواته وأسلحته إلى الحجرية, هذا البقاء رغم المعوقات أكسبهم خبرات قتالية متعددة وعلى وجه التحديد الذين استمروا بعد أحداث أغسطس 68 وكل جندي وضابط منهم زرع شتلات من الوطنية والتمرد ضد المستبدين في أبنائه وأسرته ومقربيه, هذا الزرع نمى وترعرع في الذاكرة الجمعية لأبناء تعز حتى أننا سمعنا في أول المواجهات مع المليشيات تشكيل كتائب عبدالرقيب عبدالوهاب التي أنضوى تحتها العديد من الشباب المتحمسين مستلهمين بطولات المسمى وتضحياته وفدائيته وكان هذا عامل من عوامل الصمود لمقاومة تعز.
كما أن الجبهة الوطنية التي دارت أحداثها في الكثير من مديريات تعز وإب منها شرعب وجبل حبشي والعدين وقعطبة ودمت وغيرهم صنعت مقاتلين أشداء من أبناء هذه المناطق, حتى أؤلئك الذين لم يخلقوا بعد إبان تلك الأحداث، كان للحكايات والسيَر عن تلك الفترة أثرها العميق في نفوسهم مما ولّد لديهم شعورا جامحا بالفخر والتمرد, وقد أنضموا جميعهم إلى صفوف المقاومة مقاتلين أشداء سواء أولئك الذي كانوا في صف الجبهة أو المناوئين لها وعلى وجه الخصوص المنتمين للحركة الإسلامية الذين لعبوا دورا محوريا في إخماد أحداثها في مطلع الثمانينات, وهذا أيضا عامل آخر من عوامل الصمود.
بيد أن العامل الأساس في هذا الصمود يعود لثورة فبراير التي خلقت جيلا مشبعا بالوطنية والإنتماء الوطني خصوصا أن مشعليها كانوا من الشباب المتنورين، هذا الجيل الذي ملأ الساحات خلال مسيرة الثورة وصمد فيها أشهراً في سبيل الوصول إلى غاياته وتحقيق أهداف ثورته، حمل على عاتقه مسؤولية الوقوف في وجه الإنقلاب المليشياوي وشكّل كتائب مقاومة مساندة للجيش في مختلف الجبهات القتالية في مدينة تعز وفي أريافها.
كل هذه العوامل مجتمعة ساهمت في هذا الصمود لأبناء تعز الذين رفضوا الظلم ولم يقبلوا بالضيم سيما وأن تعز كانت ولاتزال حاملة للحركة الوطنية بكل اتجاهاتها وذاكرتها مليئة بالحركات الثورية والتمردات على الظلمة والمستبدين، وإذا ما جالست أحد أبنائها لديه إلمام بسيط بالتاريخ تجده يحدثك كيف أنّ عبدالرقيب عبدالوهاب مثلاً رفض الخنوع والخضوع والإذلال لمن فر من وسط المعركة، أو تجده يحدثك عن الأستاذ النعمان الذي سُحبت منه الجنسية لأنه أراد تنوير العقول وحورب بتهمة أنه "مثقف" كما يردد البعض حتى الآن، كل هذا الرصيد النضالي ميّز تعز ومقاومتها عن إب والحديدة, وإنْ كانت محافظتي إب والحديدة تشاطران تعز إلى حد ما في بعض مما سبق إلا أن لكل واحدة منهما مشكلتها وعِلتها الخاصة.
فمحافظة إب تعاني من داء "الاستيطان" المُتحكِم الذي ترزح تحته منذ عقود، هذا الداء أفقد إب حركتها وتحركها وأصاب الثوريين فيها بفقدان الحيلة والوسيلة، فقد وجدوا أنفسهم غرباء في قراهم ومديرياتهم، حتى على مستوى المديرية الواحدة لا يستطيعون تشكيل جبهة موحدة متماسكة لكون "الاستيطان" قد وضع مديرياتهم ومحافظتهم ككل بين فكي كماشة ولهذا كانت كل حركة مقاومة تتشكل في أي من مناطقها توأد في مهدها الأمر الذي ذهب بأحدهم للقول إن إب لم "تغزُها" المليشيا قبل عام من الآن بل إنها سليبة القرار منذ عشرات السنين.
الحديدة هي الأخرى لا تفرق كثيرا عن قرينتها إب من حيث النتيجة إلا أنها وبسبب تهميشها المتعمد منذ عقود وإقصاء نخبها تحولت إلى محافظة تطالب بإشباع بطنها وكفى، وذاك جل أمانيها.
خلال حكم علي صالح كان لصوص الأرض يستقطعون أراضيها ويبتاعون بها دون أن يكون لأبنائها قول أو فعل تجاههم، وخلال هذا الانقلاب المليشياوي ظهرت بعض البؤر الثورية المقاوِمة في هذه المناطق أو تلك لكنها سرعان ما تتلاشى وكانت المعركة فيها ضد الإنقلابين تأخذ فترة كتابة بيان من بياناتها. أما المعارك الحقيقية فتاريخ تليد يردده أبناؤها، وآخر معركة كرامة خاضوها ضد المستبدين كانت معركة الزرانيق في القرن المُنصرم ضد مليشيات الإمام أحمد حميد الدين.