عارف أبو حاتم
سيظل هيكل مدرسة استثنائية في تاريخ الصحافة العربية، ولا أظن أن الزمن سيجود بمثله خلال المئة سنة القادمة، فالرجل لم يكن صحفياً فريداً فحسب بل وقارئاً استثنائياً للتاريخ الإنساني.
فالطفل الذي ولدى بريف القليوبية في سبتمبر 1923 اتقن مبكراً اللغتين الانجليزية والفرنسية ليفتتح شبابه بالعمل لدى جريدة "ايجبشن" الإنجليزية.. وباكراً رأى أنه فوق قدرات الصحافة المحلية فذهب لتغطية حرب الكوريتين، وفتنام، والكتابة لأكثر من صحيفة عالمية، وقبل أن يصل إلى سن الـ30 بدأت العلاقة الحميمية تربطه بالبكباشي جمال عبدالناصر، ليكون أهم ذراع إعلامية لناصر والضباط الأحرار وثورة يوليو، وينطلق من هذه العلاقة نحو تغيير مجرى التاريخ الصحفي العربي.
كان هيكل رجل الحكمة والكلمة والموقف، أعطى الحياة كثيراً لتهب له ما هو أكثر من لقب صحفي.. هيكل المثقف، والمفكر، والمؤرخ، والسياسي، والحكيم، وصاحب العلاقات الواسعة والثراء الهائل.
القول أن الزمن لن يجود بمثله ليس مجازفة، بل تأكيد على مكانة رجل ارتبط بعلاقات فريدة مع رؤوساء وزعماء وأمراء وملوك العالم، ورجال المخابرات والدبلوماسيين والسياسيين والمفكرين، ورجال الأعمال والفنانين والكتّاب..
كان هيكل اسم آخر لمصر، وزيارته مهمة أساسية في أجندة الرؤساء والملوك والسياسيين الزائرين لأرض الكنانة.
التنوع في العلاقات والرحلات التي لا تقف اكسبه كميات مهولة من المعلومات التي عادة ما تختفي عن أعين الناس، فالدقة في المعلومة من مصدرها المباشر والوثائق المؤكدة وتقديمها بلغة أدبية رفيعة ومدهشة خاصية اقترنت بهيكل من المحيا إلى الممات.
يكفي القارئ العربي أن يعرف أن 3000 صحيفة عالمية تمتد من كوريا إلى البرازيل اشتركت مع صحيفة "يوميوري شمبون" اليابانية لنقل مقال الأستاذ هيكل الشهري.
الحياة تعطى لمن أعطى، ورجل قرأ آلاف الكتب، وعشرات آلاف الوثائق وسافر باحثاً عنها ودافعاً لأجلها من ماله الخاص بالتأكيد سيكون صاحب قول وبليغ ورأي حصيف ورؤية أعمق، ومكانة أعلى وأرقى، فقد قصده عشرات السياسيين وقادة الجماعات والحركات السياسية ليستنيروا بهداه، ويسترشدون بحكمته البالغة النضج والعمق، فضلاً عن مشاركته في صياغة دساتير ومواثيق دولية.
لعشرات ومئات السنين سيظل هيكل محل خلاف وتنازع بين الأجيال.. وسيظل الباحثون والكاتبون عالةً على كتبه ورؤيته في الحياة.. وسأظل أنا أردد: مهما اختلفت مع رؤية "الأستاذ" بشأن العلاقة مع إيران، ونظرته لدول الخليج والربيع العربي، ستظل كتبه ومقابلاته التلفزيونية من أهم مناهل الحياة التي ارتويت منها حد الثمالة.. وسيظل كتاب "زيارة جديدة للتاريخ" من أهم ما قرأت في حياتي.
من صفحة الكاتب على فيسبوك.