ميساء شجاع الدين
جاءت الذكرى الخامسة لثورة فبراير في 2011 في اليمن ثقيلة الظل، غارقة بالحنين لكل من راوده أمل حينها، وهو يرى البلد تتراجع، بعيداً حتى عن اللحظة التي انتفض ضدها، في لحظة تبدو قديمةً. كانت الحشود تنزل إلى الشارع موحدة الوجدان والهدف، حالمة في صعود بلدٍ سقطت الآن في هوة عميقة، وتمزقت هذه الحشود وتوزعت بين أطراف قتال متعددة. يختلف هذا التمزق تماماً عن انقسام المجتمع في 2011، كان حينها انقساماً سياسياً واضح الملامح، لكنه الآن تمزق هوياتي، بلا ملامح سياسية ظاهره.
حاول اليمنيون في 2011 تقديم نموذج العمل السلمي، داعين إلى مطالبهم المرتبطة بلقمة العيش والحرمان من أبسط مقومات الحياة الكريمة، مؤمنين بالعدالة والمساواة طريقاً وحيداً لهذه الحياة. الآن، تغرق البلد في الحرب، وبعد أن تخلى القبلي عن سلاحه عام 2011 منتهجاً مسلكاً مختلفاً، يأتي اليوم الذي يحمل فيه السلاح أستاذ جامعي وتلميذ ومهندس، في حرب شاملة تغرق بها البلد.
ليس غريباً أن يكون مسؤولاً عن هذا كله الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، الذي لم يكف عن ترديد جملته الشهيرة "اليمن صارت قنبلة موقوتة"، في تلخيص مكثف ومعبر عن نتاج مرحلة حكمه المأزوم والفاسد، لكن الغريب أن الأحزاب التي ركبت جناح الثورة، ومن خلالها، وصلت إلى السلطة، في وقت لم يكن سقفها التفاوضي مع صالح قبل الثورة يرتفع عن تغيير اللجنة الانتخابية العليا وقوانين الانتخابات، هذه الأحزاب لا تشعر بأي ذرة إحساس بالمسؤولية عما آلت إليه البلد من أوضاع كارثية.
لا تشعر هذه الأحزاب بأي ندم من سياستها الالتفافية على أحلام الناس. وعوضاً عن الارتفاع إلى مستوى تطلعات الشعب، هبطت بأحلام الناس من تغيير شامل للمنظومة السياسية إلى مجرد إسقاط شخص صالح، والبقاء على منظومته. لم تكن هذه الأحزاب تطمح بتغيير كامل لآليات الاستبداد والفساد التي تحكم تلقائياً، حتى لو تغيب شخص من يديرها، وكان طموحها لا يتعدّى وراثة هذه الآليات، مع بعض التغييرات الشكلية البسيطة. لهذا، تعاملت مع الثورة باعتبارها وسيلة ضغط جديدة في مفاوضاتها السياسية، وليس كلحظة خلاقة لمرحلة مختلفة، مرحلة أكثر عدالة تضمن توزيع الثروة، لكي يكون هناك تكافؤ أفضل في الوصول إلى التعليم والعمل، وكذلك الانتخاب والوصول إلى السلطة.
يدفع اليوم جميع الملتفين على ثورة 2011 الثمن غالياً، صحف الأحزاب مغلقة كلها، ومسؤولوها مطاردون، وبعضهم صار في المنفى. ودول الخليج التي تخوض، الآن، حرباً ضد تحالف داخلي ركيزته علي عبدالله صالح الذي اندفعت لحمايته في عام 2011، وصاغت المبادرة الخليجية، مؤكدة أنها ليست سوى أزمة سياسية داخل النظام اليمني، وليس ثورة شعبية ضد نظام الحكم. تنفق هذه الدول نفسها مليارات على حربٍ، كلفتها السياسية والمادية تثقل وتفيض عن اليمن لتتسع إلى محيطه، ناهيك عن الكارثة البشرية التي تعيشها اليمن.
"بعد خمس سنوات من 2011، يتجه الجميع في الطريق الذي رسمه علي عبدالله صالح بعناية، عندما قال "أنا أو الفوضى". والآن، يقول تحالفه أنا أو داعش"
في كلتا الحالتين، يظل المفقود الأكبر هو الشعب اليمني. كان الوهم في المرة الأولى أن المسألة ليست أكثر من انقسام داخل بنية النظام، بسبب مشروع توريث صالح نجله السلطة. والآن، صارت المشكلة إقليمية بين السعودية وإيران، أو بين انقلابيين وشرعية. في المرة الأولى، لم يروا من الثورة سوى علي صالح وغريمه علي محسن والأحزاب، وتجاهلوا وجود الشعب، ولم يهتموا لمعرفة أسباب ثورته. وفي المرة الثانية، لم يروا من الحرب سوى الحوثي والتحالف، وتعاموا عن وجود مقاومةٍ، تسبق تدخل التحالف، ولم يدركوا الأسباب الداخلية للمقاومة، والتي لا تمت بصلة بعودة عبد ربه منصور هادي رئيساً، كما يطمح التحالف.
المقاومة العنيفة التي انطلقت، بعد استيلاء الحوثي على صنعاء في سبتمبر/أيلول 2015، ومن عدة مناطق، كرد فعل على اجتياح الحوثي المحافظات اليمنية، واحدة تلو الأخرى، كانت فعلاً طبيعياً وحتمياً لغياب الدولة، والأهم إنها رد فعل بكل ما تعنيه هذه الكلمة من عشوائية وانعاكاسات للفعل العدواني. فقد تشكلت المقاومة كرد فعل في دفاع بدائي عن قيم إنسانية بديهية من كرامة وحرية، ولأنها رد فعل، فهي مقاومة غير منظمة وعشوائية، كما يفترض برد الفعل، وكذلك تأخذ موقفاً معاكساً لعدوها، وليس مناقضاً له، أي أنها تواجه العصبية المناطقية والقبلية والمذهبية التي يمثلها تحالف الحوثي وصالح بأخرى معاكسة من عصبيات مناطقية وقبلية ومذهبية.
وكما تخلت النخبة في اليمن عن الفعل الشعبي الثوري في 2011، منحازه لصراعات السلطة ومتوزعة بين أطرافه، علي عبدالله صالح من جهة وغريمه علي محسن من جهة أخرى، وكانت تتحجج هذه النخبة بغياب التنظيم والوعي، متناسية أن هذه كانت وظيفتها المطلوبة منها. واليوم، تتبجح النخبة نفسها بمناطقية المقاومة وتطرفها وعشوائيتها، عوضاً أن تحاول تنظيم هذه المقاومة، على الرغم من أنها مقاومة تشكلت من شتى أطياف المجتمع اليمني، أي تملك تركيبة متنوعة، ويمكن أن تصبح بداية تشكل تكوينات سياسية وطنية، خصوصاً أن كل هذه النزعات المتعصبة داخلها ليست سوى رد فعل، وليست فكرة أصيلة في المقاومة، كما هو الحوثي الذي يتبنى الفكر العنصري المتطرف بجلاء في الوثيقة الفكرية التي وقع عليها زعيم الحركة وبعض رموزها الدينية.
المشاريع التسلطية التي كان يحلم صالح باستعادتها، وحلمت الأحزاب بوراثتها، ثم جاء الحوثي وحلم بإحيائها في شكل أسوأ مما كانت عليه محكومة بالسقوط، فلقد كان الرئيس هادي يحلم بوراثة دور سلفه، لكن ضعف ولاء مؤسسات الدولة، خصوصاً الجيش والأمن، دفعه إلى الاستقواء بالخارج، حيث كان يقضي جل وقته في لقاء السفراء العشرة، وفي مناسبات قليلة ظهر للشعب بخطاباته الباهته، وحضوره الذي يفتقد أي كاريزما.
تلاشى هذا كله، ولم يعد هناك مكان لأي فرد أن يستوعب انقسامات المجتمع اليمني، ويحكمه مستبداً. كذلك لا تحاول القوى السياسية، ولا أفراد النخبة فهم واقع المجتمع اليمني، من خلال قراءة دوافع حراكه، بعيداً عن صراعات السلطة أو الإقليم، دوافعه الاقتصادية والإنسانية، ولا حتى محاولة الوجود في وسط هذا الحراك، لتطويره والاستفادة منه في بناء نظام ديمقراطي عادل.
بعد خمس سنوات من 2011، يتجه الجميع في الطريق الذي رسمه علي عبدالله صالح بعناية، عندما قال "أنا أو الفوضى". والآن، يقول تحالفه أنا أو داعش. ليست هذه البدائل قدر اليمنيين، بل خيارات المنظومة الإقليمية البائسة، والسياسيين اليمنيين الفاسدين أو العاجزين، لكي يضمنوا وجودهم، الفوضى وداعش والحوثي وكل هذه المفردات العنيفة والكارثية تضمن بقاء ممارسات الفساد وسياسات الاستبداد، ولو على أجزاء سياسية واجتماعية متقطعة.
يتحدث بعضهم، اليوم، عن فبراير/ شباط 2011 بحسرة، أو ربما بندم، وغالبية كبيرة من الشعب تعيش شظف حياة أفقدتها الأمل في السياسة والسياسيين، وتنتظر بلهفة وبدون أمل نهاية الحرب. فقدان الأمل بكل ما يحمله من لا مبالاة حزينة هي الضامن الوحيد لبقاء الحرب وبأشكال مختلفة، وكذلك استمرار الظلم بشكل أعتى. لا شيء يضع حداً لمعاناة الناس ومظالمهم، ويفقد هذه الحرب سطوتها، مثل إحياء الأمل، من خلال العمل السياسي المرتبط بالناس، ليبعث فيهم الإرادة والحلم مجدداً.
*العربي الجديد