عمر الفارعي
أعيروني بعض الكلمات لأقوم بخيانة تعز كما يجب، إذ أن الخيانة ليست سوى حفنة من كلمات عاجزة، نقوم بدلقها – حماقةً – على الورق!، هناك في تعز، حيث الموت، ليس موسميا كالأمطار، هو يطل عليك من الآبار الجافّة، ومن أنابيب الأوكسجين الفارغة، والنوافذ الباكية، والمنائر المحطمة، والشوارع الحزينة.
من الطرقات المختنقة بالدم، ومن الحوائط النابضة بالقهر، وخزانة الملابس الفارغة، من لعب الأطفال المتناثرة.
الموت في تعز ليس فجائياً أبدا، بل الحياة هناك تأتي فجأةً!
أن تكون في تعز، ذلك يعني أنك محاطٌ بالموت جيداً ، ربما هو الهوية الوطنية التي لا تحتاج إلى ختم ( السلطة )، تحتاج فقط إلى قطرة دم ساخنة وبريئة.
أطفال تعز يحسُبون أعمارهم بالدقيقة والثانية، فالعمر في تعز مثير جداً، فهو رحلة حمراء بين طلقات رصاص غبي معتوه طائش، تلقى أوامره من سيئ مران الصبي المتشدق، ومن معتوه سنحان الكهل والزعيم لكل خراب، ودخان رماديّ لا ينقطع، هو لحظة فرار مؤقت، من الموت إلى الموت!
الطفولة في تعز ثقافة ممتلئة بالأشلاء، تبدأ الحصة الأولى صباحاً قبل الدخول إلى المدرسة التي لم يعد لها إلا الاسم فقط في تعز، حين يتعرّف الصبية الذاهبون إلى الدرس على أشلاء صديقهم المتناثرة في الطريق، إثر الغارة الصباحية قبل دقائق! حين يرون الأخ الأكبر لصديقهم، بجانب المقبرة ، حين يرون معلمتهم الحسناء ترجع إلى البيت باكيةً في الصباح إثر عنجهية المليشيات التي أفقدتها الشيء الكثير من أنوثتها الطريّة!
الطفولة في تعز قافلة من اللعنات لا تنتهي، الدم في تعز يأخذ ألوانا كثيرة، هو أحمر قانٍ في عروق الشهداء، أسود فاجر في أجساد الخونة.
الدمُ يسيل هنا بغزارة ، يبدو أنه لا مفرّ من الموت، إما أن تحتضنه ، وإما أن يحتضنك، كذلك الربيع والشتاء يبدو أسود أكثر مما ينبغي ، لا تهطل الأمطار في تعز من الأعالي ، هي تصعد من الأسفل على هيئات كثيرة، إما أرواح .. أشلاء .. قطرات دم .. دعاء .. صلاة .. دموع .. صرخات .. طفولة مهدرة .. أنوثة محطّمة .. طرقات مهترئة .. حجارة غاضبة .. وصخب لا ينتهي أبداً.
الشتاء في تعز فصلٌ استثنائي ، يأتي فقط ليشرب الكثير من الحياة الراكدة هناك ، ترضع تعز ليلاً من ثدي السماء ما يكفيها من الظلام ، لا لتنام ، ولكن لتتظاهر بالنوم ، حيث اليقظة هناك تعني أنك على مقربةٍ من الهلاك.
والسماء تمنحهم الكثير من هذه العُتمة؛ يبدو أنها تهيئهم لصبيحة أكثر دموية ! لا شيء يضيء في تعز ليلاً ، سوى بوارق القذائف، ولمعان المدفعيات، ووهج الكاتيوشا، والإطارات المشتعلة، والشموع المترهّلة، والسجائر المحبَطَة!
لا صوتَ في تعز ليلاً ، سوى أنّات الثكالى ، وبكاء اليتامى ، وطقطقة مفاصل الشيوخ البائسين !
الأمّهاتُ في تعز ، لا يبكينَ كثيراً ، يدركنَ أن لا جدوى من ذلك، الأمّهاتُ في تعز ، لا يضحكنَ كثيراً، يدركنَ أن لا داعيَ لذلك، والأمّهاتُ في تعز، لا ينمنَ طويلاً ، خوف أن يحلمنَ بالأزواجِ الشهداءِ ، أو يغفلنَ عن الأبناء.
الليالي في تعز لا تلهم الشعراء، لارتكاب حماقةِ الشعر، ولا الفنان كي يشدو بأغنيته ، ولا الرسام كي يحرك ريشته ، الليالي في تعز لا صوت يعلو فوق صوت الكاتيوشا والمدفعية... .
تعز ، مكتوبٌ على الحيطانِ: الدماءُ ، نعمةُ الوجودِ ، فضلاً .. لا تسرف في الدماءِ. تئنّ تعز ، كلّما الموتُ بأطفالها ارتطم .. تنادي ، تنوح ، وتبكي ، و لا صوتَ يعلو فوق صوتِ الألم ! في تعز ، لا نحتاج المرايا ، تكفينا وجوهنا في القنواتِ، الصحفِ، النعاةِ، المقابر ولا تحتاجُ تعز للمصابيحِ ، إلا لتدفن موتاها.
وتجدي قليلا ، كاميرات الشاشات العربية المساندة ، كلّ شيء قابل للحزنِ، أو الفرحِ.
عين الآن طفلة تبسمُ ، كونَ منظمة البلد الخير المجاورِ ، تمنحُها كفناً جديدا ! وأي كفناً سيدخل وكيف ؟! ومن أين سيعبر؟! والمليشيات في كل منفذ من منافذ المدينة يطبقون حصارا .. لا .. لا .. حتى الكفن سيصادر ..! تعز ، كلّ الذين يعيشونَ ، .. لا ليعيشوا ، إنما كي يشهدوا الموتَ أكثر!