عاتق جار الله
قبل أن يشتد عضدها وتقوى شوكتها وقبل أن تصل إلى مرفأها، تهافت أهل السياسة لقطف ثمارها ونزعوا الريادة من فرسانها "الشباب" الذين سقوها بدمائهم وحرسوها بأعينهم واعتبروها باباً جديداً لعصر جديد، إنها ثورة الشباب اليمنية الهادفة إلى ترسيخ روح التعايش وسيادة القانون.
ذهب أهل السياسة إلى تقاسم التركة، فمنهم من جرى لها جرياً، ومنهم من زحف على بطنه، ومنهم من وقف على استحياء، خجلاً من التعامل مع صالح وعصابته، التي سفكت دماء خيرة شباب اليمن في ميادين السلام والتغيير، ويتمت أطفالهم ورملت نساءهم، هذا النوع الثالث من السياسيين هم الأجدر والأفضل لنيل ثقة الشعب كالمناظل "محمد قحطان" القابع في سجون صالح والحوثي، وأمثاله كُثر، بيد أن ما يفسر موقف الرجل القوي هو تمسك "صالح والحوثي" ببقائه لديهم في المختطف، ومن اللافت أن "قحطان" شكل العامل المشترك بين الثلاثي: "بن عمر وصالح ومليشيا الحوثي"، فما الذي كان يفعله الرجل؟
خلال الفترة الانتقالية شهد اليمن سلسلة من المفاوضات "الخاسرة" بين المكونات السياسية برعاية الأمم المتحدة عبر مبعوثها السابق جمال بن عمر كان الساسة والدبلوماسيون هم فرسان المرحلة وظل الشارع اليمني بما فيهم شباب الثورة في انتظار مرير وشوق مفعم بالتفائل والأمل لرؤية مستقبل الأجيال في ظل يمن جديد خال من كل أشكال الاستبداد والطبقية الدينية أو المناطقية، بيد أن تلك الأحلام الوردية تلاشت وأفل بريقها وذلك يعود لأربعة عوامل أساسية:
شخصية الرئيس هادي
دور المملكة العربية السعودية وموقفها من أهداف الثورة الشبابية
دور المبعوث الأممي جمال بن عمر
تفكك اللقاء المشترك خلال الفترة الانتقالية
فشل السياسيون واستطاع صالح أخذ نفس عميق ومن ثم العودة للرقص على رؤوس الثعابين مجدداً، ولكنه فيما يبدو هذه المرة أخرج آخر ثعبانٍ في جعبته "ثعبان الطائفية العفنة"، وهذا الثعبان "أي الطائفية" يُعد حكراً على نظام الولي الفقيه الإيراني الذي يجيد الرقص عليه، وهو أخطر ثعبان أصبح يهدد أمن الدول العربية والإسلامية برمتها.
وهذا لا يعفي الشباب اليمني الثائر من الأخطاء التي وقع فيها بعد أن ظن أن الثورة هي قطعة القماش "علم الجمهورية" التي سلمها صالح لنائبه منصور، واصفاً إياه باليد "الأمينة"، وكأن لسان حاله يقول احتفظ بها حتى أعود.
الأمم المتحدة في عهد بن عمر:
لم ينعكس ذلك الفشل السياسي الذريع على السياسيين اليمنيين فحسب، بل انعكس أيضاً على صورة الأمم المتحدة في ذهنية المجتمع اليمني الذي كان يرنو إلى أن يكون جزءاً من بناء هذه المنظومة الدولية، التي تكاد أن تتحول اليوم إلى أداة هدم وإرهاب إذا لم يتدارك المجتمع الدولي ذلك، أذكر مشهداً على سبيل المثال لا الحصر يلخص صورة الأمم المتحدة قبل وبعد بن عمر.
كنت ذات ليلة مع مجموعة من الزملاء في ساحة التغيير بالعاصمة صنعاء وتحديداً تقاطع شارع الرباط مع شارع الدائري، أو ما يسمى جولة القادسية، وكانت العاصمة حينها تغرق في ظلام دامس وذلك لانقطاع التيار الكهربائي عنها، فجأةً جاء خبر عاجل نصه: وصول مستشار الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الخاص لليمن السيد جمال بن عمر والوفد المرافق له إلى مطار صنعاء الدولي، بعد دقائق قليلة خرج شباب الثورة من خيامهم فرحاً بحتمية عودة الكهرباء وإضاءة الشوارع، بالإضافة إلى أن عصابات صالح لن تتجرأ على سفك دمائنا في مسيرة يوم غد، وأخذ كل منا يتقرب إلى توصيلة التيار الكهربائي استعداداً لشحن الهواتف النقالة، وآخر يستعد لحجز مقعد في خيمته بالقرب من التلفاز لمتابعة ما سيقال عن أهداف الزيارة.
كانت لحظات ومشاعر لم يحترمها "بن عمر"، كما يسميه اليمنيون اليوم، ولم تحترمها منظومة الأمم المتحدة نفسها، ومع الأسف اليوم وبعد أن أصبحت صورة الأمم المتحدة عبارة عن مسخرة أو ما يمكن تسميتها "استراحة مقاتل"، وبعد أن دبّ اليأس والإحباط في صفوف اليمنيين، ذهبوا إلى ميادين المواجهة والحسم العسكري كخيار أخير للقضاء على الاستبداد العائلي والديني، بعد أن كادوا أن ينجحوا في سد ثغراته عبر مخرجات الحوار الوطني، وطيّ صفحة النظام البائد الذي اعتمد استراتيجية (الجائع أسير بطنه) بحق الشعب اليمني التواق إلى الحرية أكثر منها إلى رغيف الخبز.
كرّس بنعمر صورة ذهنية عن دور الأمم المتحدة - تقول إن الأمم المتحدة مع من غلب، وأنها تساعد الأقوى والأجدر لحسم المعركة بصرف النظر عن وسائله وآلياته وبرامجه، وبالتالي فإن صورة الأمم المتحدة في ذاكرة اليمنيين لم تتراجع فحسب، بل إنها أصبحت محل شكٍ وريب، ولعل تواجد جمال بن عمر في صعدة بجانب سيده الحوثي "كما يسميه"، في الوقت الذي تشهد العاصمة صنعاء انهياراً شاملاً لكل مؤسسات الدولة ومكتسبات الشعب، عزز قناعة يصعب التشكيك فيها بأن الأمم المتحدة عبارة عن شبح كرتوني يختبئ خلفه مجموعة من أعداء الإنسانية إذا ما أحسن الظن فيها.
تتجلى النتيجة النهائية بعد أكثر من 30 زيارة رسمية للسيد جمال بن عمر للعاصمة صنعاء في أن الشباب الذين رسموا على أسوار مدن صنعاء وعدن وتعز صوراً تشكيلية فنية توحي بالحياة المفعمة بالإبداع والتعايش، هم اليوم إما في سجون عصابات صالح والحوثي، أو في ميادين القتال والمواجهات المسلحة.
ألا يمكن القول إن هذا فشل بل وجريمة في حق منظومة بحجم الأمم المتحدة، التي يتوجب عليها القيام بدور أكثر إيجابية من الدور الذي لعبه بن عمر خلال فترة الحوار الوطني، حتى أن البعض أطلق عليه (مهندس سقوط صنعاء).
خاتمة:
يمكن القول أن الكل اليوم أصبح لا يعول على دور الأمم المتحدة وحورات جنيف 1،2، ... والحلقة تطول، بل أننا في الحقيقة عندما نسمع عن دعوة للحوار نتوقع أن تكون هناك مجازر جديدة لكسب نقاط أكثر على " مائدة الحوار "، كما يحصل الآن في مدينة تعز.
الأمر الذي يلقي بالمسؤولية على عاتق المبعوث الاممي الجديد " ولد شيخ أحمد " لترميم تلك التشوهات التي شابت سمعت الأمم المتحدة كمنظمة تهدف إلى حل النزاعات وتجفيف مصادر العنف كما يقول القائمين عليها، وهذا قد يتطلب جهود كيبرة وفاعلة يلمس المواطن اليمني والعربي بشكلٍ عام نتائجها على أرض الواقع.
* باحث يمني
هافينغتون بوست عربي