بروفسور نسيم الخوري (أستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه، لبنان)
أمس، خرج جدّي على رأس قبيلته من الغساسنة من خلف سدّ مأرب نحو الشمال بعدما إنهار السد تحت أسنان فأرة قضمته. واليوم وغداً، يعود حفيدي نحو بقايا السدّ في اليمن قابضاً على فأرة العصر أي الماوس Mouse ليفتح بها نوافذ العالم.
نعم، فألف سنةٍ في عينيك يا ربّ كأمسِ الذي عبر! استوىجدّي فوق رائحة السمك في بحور الشرق الأوسط راسماً تاريخه بقشّةٍ فوق الصحاري الممتدّة نحو الشمال وتركها لنا مجلدات رملية من التوصيات والتمنيات والمؤتمرات علكها أبناء العرب طلباً لوحدتهم طيلة ستين قرناً! لا تغيير في بقعة العرب سوى في إنتظار الأحفاد.
وكانت بيروت، مدينتي مثلاً، التي حطّ خطوته الأولى فيها، تقول بأنها عاصمة الفكر العربي ومطبعة العرب وجامعتهم ومدرستهم ومشفاهم ولوحتهم الجميلة الغالية.
تصرخ بأعلى صوتها حضناً لتلقّف حكام العرب وسياسييهم وكتّابهم وإعلامييهم وشعرائهم ومعارضيهم يراكمون في فنادقها ومقاهيها ومطاعمها وشوارعها التي لا تنام كلاماً في الديمقراطية والحريّة والموضة والمعارضة والثورة.
وكانت بيروت بحيرة العرب وحبّة اللوز الأخضر يملّحونها ببقايا الصحراء المجفّفة العالقة فوق شفاههم، بعدما يطفئون شموسهم في نعاسها.لكنّ بيروت كانت الأولى التي تتأهّب للجرح والرحيل.
وكانت بيروت، الجوهرة اليتيمة التي لا اسم لها أو شهرة أو ديناً أو مذهباً أو مهنةً، تنافس الجواهر المصفوفة في التاج العربي الضائع بحثاً عن فلسطين، وتعتبر نفسها العاصمة المشرقية الرائدة التي تلتفّ حول معصمها مجمل عواصم المشرق العربي.
ولم تكن تتردّد بالقول بأنها الرائدة في توصيف التنافس والغيرة الفكرية والثقافية التي قامت وتقوم بين عواصم المشرق العربي ومغربه.
فالمغرب العربي، كان وما زال يعاني من تداخل شرايين الحبر واللسان بين العروبة والفرنجة.
يتكوّم المغرب العربي وبلدان شمالي أفريقيا متماهيةً بالشاطيء الشمالي لبحيرة الأبيض المتوسط وتحديداً فرنسا حيث تطغى اللغة والتعبير الفرنسي والإيطالي والإنكليزي، بينما ينزاح المشرق العربي، اليوم، بالرغم من الإعتدادات كلّها مسلّماً أموره الفكرية والسياسية والثقافية الى مناخٍ من الضياع وفقدان الهويات وضمور الإبداع وضجر الوقت والتلذّذ بالدم. وبين المشرق والمغرب، ينام بعض الكتّاب خلسةً على نهضةٍ تتبعثر في كتابة رسائلها بين بيروت ودمشق وبغداد وعمّان والقاهرة والجزائر وتونس وغيرها. ويبدو الخليج، الذي لم تستقرّ تسميته بعد بين الفرس والعرب،وفي هدأته المنقوشة بالخوف، مثل السهوب الكندية الممتدّة أمامي، مع فارقٍ بسيط يضاف الى الفروقات الطبيعية بين القيظ والثلج. تستيقظ هنا في باريس أو في مونتريال أو لندن وغيرها، ولا تجد في عناوينها مثلاً، سوى شكر الحكومات وجوائزها للجمعيّات التي ساعدت العائلات التي تبنّت 120 قطّة شريدة فآوتها، أو تقرأ تحذيراً لقاطنيها من بعض النباتات والأعشاب الخطيرة التي قد تنبت في الحدائق الأليفة التي تلازم بيوتهم الزجاجية، فتؤذي بإفرازاتها الصباحيّة العينيين والجلد وكأنّه أذىً يفوق تهديد”إسرائيل”أو الأمن القومي في البلاد المرتجفة.
وقد تقرأ عن الإحتفالات الرسمية بسبب زرع الأشجار الجميلة المصفوفة على إمتداد الشوارع تحيي المارّة عند الصباح وفي المساء بدلاً من تماثيل الزعماء الأبديين المنصوبة في الشوارع والساحات العربيّة، وحيث نقرأ في صدور صحفنا المآسي والمجازر ونديباً لا ينتهي في توصيف الفشل والهزائم والشكاوى وبقايا القضية الفلسطينية التي تركض في طريق سريع نحو الإنقراض المستعصي أو نحو تعميمها كتجربة مرّة على عواصم العرب. نقرأ عن “حضارة” تكديس السلاح وإمتشاقه لقتالٍ عربي عربي وإسلامي إسلامي ومذهبي مذهبي، في زمنٍ تتأبّط فيه إيران ورقة فلسطين والقدس تحثّ بها أنظمة العرب بتصويب الألسنة والأداء في مسائل خطيرة مثل الإرهاب والمستقبل النووي، وقد بات خاتم بنصرها الأيمن الفضّي في المعجن العراقي واللبناني والسوري والليبي والخليجي تنخرطفيالحروب والمعاركالتي يسهل عليها إيجاد من يقتنيها ويتبنّاها فيحييها دماً أسطورياً للأجيال القارئة القادمة.
أكتب بين حبرين: حبر يسيل خلف الدم يغطّيه ويذكيه ويبقي على طراوته، وحبر يخاف من إنحدار الدم فيقطع رأس العرب نزولاً نحو الماء ليطفيء حرارته ويذيب بعض الأحزان والأحقاد السياسيّة والمذهبيّة التاريخية المحشوة فيه.
تلك هي مشقّة الكتابة بين الغرب والشرق أو بين مسلمٍ وآخر وعربي وآخر أو فوق خطوط الهزّات العربيّة وفيالقها، بحثاً عن فهم مستقبل الشرق الأوسط لربّما يقرأونه.
لا يقرأون لكنهم يرفعون إبهاماتهم منبهرين بكلّ شيء ولو بصوت بدبيب نملة.
إنّه عصر”اللايك” حيث اللمحة بدلاً من القراءة السريعة أو العبور أو المرور في حقلك مرور الكرام في تعليقات تشبه نطف “التويتر” أو أحفاده قبل الذهاب الى مقاعد الحضانة.
تعليقات وكتابات ونقد وشتائم تطمح لأن تصل الى العناوين.
وفي هذا مرارة أو لذّة يمكن أن يعيشها المبدعون والكتّاب الذين يقدّسون حركة أقلامهم وأرواحهم المتفجّرة على الدوام.
وشاءت المصادفات أن تغريني هذه المظاهر الجديدة للقرّاء، فصرت أشتغل على نحت عناوين نصوصي كما ترون، بعدما أجبرتني الصحافة طيلة خمسين، وامتصّت كلّ الإبداع بالقطّارة والإشارة، وأجبرتني لأن أصبح صاحب مصنع عريق للنصوص القصيرة والعناوين.
ما ألذ النصّ الذي يصيب النسر بنقطة حبرٍ ولو كان في كبد السماء! ما ألذ الإبهامات المرفوعة أبداً التي تدفعك الى النشر في كتاب.
ماذا يعني عصر “اللايك” بالنسبة لمن يكتب في هذا الشرق الأوسط سوى المزيد من القهر المقيم في غبطة الهدوء والعزلة والرتابة التي تجعلك كلّها، قبل أن تسمّي نصوصك وتشاورها وتنشر بعضها على الشاشات ثمّ توضّبها وتطلقها وتتفاهم حول قرانها ولباسها ومهرها ومستقبلها سوى الحرص على إثبات القدمين، كما الدول العظمى، كي تحسن الوقوف مكان الخصم فلا تعرّيه أو تحقره، أوتحسن الوقوف في مكانك وعند أرائك وما تؤمن به كي لا يعيّرون فيك فجاجة حبرك أو عرضه للبيع على الأرصفة المتنوّعة المذاهب والميزانيات في بلاد العرب؟
أليس أشقى الكتابة وأصعبها وأكثرها تكراراً واعياً من الكاتب العربي للمقاطع والنصوص عندما يقع العرب بين حبرين: حبر النفط وحبر الماء إذ يختلطان ببحور الدماء ومحيطاتها في شرق يتكرّر برتابة الشيوخ وعجزهم يعصى على القيادات؟
*رأي اليوم