متولي محمود
استحال ربيعنا إلى خريفٍ قاحل، بعد عامٍ على تفتّحه. أو أنه لم يُزهر أصلا، لعدة اعتبارات. فجذور الشر ضاربة في أعماق الأرض، والوطنُ محاطٌ بالعبيد والجهّال.
لاعتباراتٍ دولية، كان على ربيع مصر أن يصير إرهابا، وعلى ربيع ليبيا أن يصير جماعات متناحرة، وعلى ربيع سوريا والعراق أن يصير "داعش"، وعلى ربيع تونس أن يترنّح بين الإفشال ووعي التوانسة النابع عن فارق التعليم والثقافة.
أما ربيعُ اليمن، فكان له أن يعود إلى ما قبل الحضارة؛ إلى البعيد، حيثُ السادة والعبيد.. حيثُ تُزهق روحُ الوطن ليعيش "السيد". على حين غفلة من التاريخ، قدِم من إحدى المغارات عشريني يسمي نفسه ببجاحة "السيد"، ليخبر الجميع أنه حفيد "رسول الله" وأنه صاحب الحق الإلهي في حكم اليمن.
تلبّس العمالة للخارج، ركب الموجة الطائفية، وراح يبعثر النقود، التي باع بها الوطن، على العبيد والمرتزقة. نكبوا الدولة ومؤسساتها، أو ما بقي من شكلها، وأشعلوا الحروب في كل أرجاء الوطن، على أسس مناطقية وطائفية منتنة. إنها حصيلة عقود من التجهيل والإفساد؛ إنه العهد الأكثر قتامة في تاريخ اليمن.
عودة الأنظمة السابقة
في معظم "دول الربيع"، عادت الأنظمة السابقة من بوابة الثورة. امتص المجتمع الإقليمي والدولي موجة الربيع عبر قبولها مبدأيا كأمر واقع، وتعاملوا مع الوضع بحذاقة. شيطنوا الربيع، شقّوا الصف الثوري عبر تصوير الوضع كربيع "إخواني" ومن ثم استفردوا بهم وأعادوا الأنظمة السابقة بنكهة ثورية خالصة.
في اليمن، بدا الأمر مغايرا. فقد أجمع اليمنيون على انتهاء نظام "صالح" لقناعتهم بعقمه، وتغوّله في الفساد حد النخاع. إذن، فاليمن بحاجة لطبخة أخرى تماما، وبما يسمح للغول الجديد تجذير الصراع بنكهة طائفية كالتي في أقصى الشمال.
رغم أن عصا الحل كانت "خليجية"، غير أن فوبيا الربيع لدى الخليجيين جعلت الأمور تذهب إلى الطرف الآخر، وبحسب رغبة التوجّه الأمريكي في المنطقة. إذن، الحل يكمن في "إضعاف الإخوان" عبر دعم الحوثيين- إحدى فصائل 11 فبراير- بالتزامن مع عدم المساس بقوة "صالح" ودولته العميقة.
القضاء على الإصلاح
بدأ الأمر بهيكلة الجيش، حيث تم تشتيت "الفرقة الأولى مدرع" التي يقودها الجنرال العجوز والغريم التقليدي لصالح "علي محسن الأحمر" المنضم حديثا لثورة الشباب. أما قوات الرئيس السابق التي يقودها نجله، رغم إقالته، فقد بقيت كما هي، وسميت بقوات "الاحتياط".
الخطة تشمل دعم للحوثيين، تقديم تسهيلات من قوات صالح والمشائخ الموالين له، وتوجيه ضربة خاطفة للإصلاح في العاصمة. بعدها سيأتي "المنقذ" ليعيد الأمور إلى نصابها، وبالتالي إعادة "النظام السابق" عبر ما سمي باتفاق "السلم والشراكة". هنا سيضمن الخليجيون اندثار ما سمي بالربيع العربي، وسيعود النظام السابق للحكم، ومن بوابة الثورة.
الغول الإيراني
لم يمضِ كل شيء كما خُطط له، أو ثمة لاعب جديد دخل على الخط. سيطر الحوثيون على العاصمة ومؤسسات الدولة، بمساعدة دولة "صالح" العميقة، وبدأوا بالنفور صوب المحافظات للسيطرة عليها. ليلة سقوط العاصمة، كان مبعوث الأمم المتحدة في صعدة، لإكمال الطبخة الدولية التي دُفع له لقاءها. وقع الحوثيون أخيرا على اتفاق السلم والشراكة، وفسروه "الحرب و والإقصاء" وراحوا ينفذونه على طريقتهم.
خلف اتفاق الحوثيين وصالح مع الخليجيين، كان هناك اتفاق مخفي مع الأمريكيين وإيران. مسؤول إيراني كبير يتحدث بصفاقة عن ضم العاصمة العربية "الرابعة" إلى حضيرتهم. لا أحد يتحدث عن مليشيا اغتصبت دولة بقوة السلاح، داهسةً حوار وطني شامل وقع عليه الجميع، وبرعاية الأمم المتحدة. الجميع ابتلع لسانه؛ الجميع سلّم بالأمر الواقع.
غول الحوثيين يبتلع الدولة، ويضع رئيس الجمهورية والحكومة تحت الإقامة الجبرية. وإيران تسيّر رحلات أسبوعية، وصنعاء تتحول إلى مدينة إيرانية يحجُ إليها ضباط الحرس الثوري. غولٌ طائفي في الشمال، وها هو ينتشر في الجنوب الخليجي كالخلايا السرطانية. الأمر مقلق للغاية بالنسبة لدول الخليج، ومبهج بالمقابل للولايات المتحدة، المتعهدة بحماية الخليج.
لا يلدغ مؤمن من جحرٍ مرتين؛ غير أن الإخوة في دول الخليج لدغوا مراتٍ عدّة من الثعلب صالح. منذ صعد إلى الحكم، ومنذ حرب الخليج وتآمره على "الكويت" المتكفلة بملف التعليم في بلاده التي لم يبنِ فيها مدرسة طوال عهده الأسود، والذي كرسه في تكديس السلاح وتأجيج الفتن للحفاظ على ملكه.
أمن الخليج في خطر
فوبيا الربيع جرّت الخليج إلى مآلات سيئة للغاية، ولا يبدو الأمر مقتصر على هذا الحد؛ فثمة سيناريوهات كارثية في الانتظار. إيران تحقق أهداف بعيدة، لم تكن تحلم في تحقيقها على مدى عشرات السنين. تواجد قوي في خاصرة الخليج، ومن معظم الاتجاهات.
رغم القدرة العسكرية التي يمتلكها الخليج- السعودية تحديدا- إلا أن التسليم بالأمر للحماية الأمريكية، والانكسار أمام "الفقاعة" الإيرانية كان سيد الموقف.
بعيدا عن المجاملات، يتحمل النظام الملكي السعودي السابق بمعية الإمارات كافة تبعات ما حصل في اليمن. توفي الملك عبدالله- رحمه الله- وفي عشية وضحاها، قلب الملك الجديد نظام الحكم رأسا على عقب، وبدأ بترسيخ دعائم "المملكة" كقوة إقليمية لا يمكن تجاهلها.
إنقاذ ما يمكن إنقاذه
استطاعت المخابرات السعودية تهريب الرئيس المحتجز كآخر خيط "للشرعية اليمنية" وبدأوا التجهيز لحلف عربي خالص لإزالة الانقلاب، وإعادة الأمور إلى نصابها.
بدأ حلف الحوثي وصالح يزحف باتجاه تعز والجنوب، والوجهة ملاحقة الرئيس "الهارب" وتثبيت الانقلاب في الوسط والجنوب. بدأت طائرات الانقلاب بقصف قصر "معاشيق" الذي يتحصن فيه الرئيس الشرعي. في تلك الغضون، حرر هادي- بطلب من السعودية- مذكرة استغاثة للدول العربية، وطلب تدخل عاجل لإنقاذ الشرعية من الغول الفارسي.
عاصفة الحزم
كانت المشاورات قد أعدت سلفا، ومع ذلك تم عقد قمة عربية طارئة، واستصدار قرار من مجلس جامعة الدول العربية يقتضي تشكيل حلف عسكري عربي والتدخل في اليمن بناء على مذكرة الرئيس الشرعي. كان لا بد من صناعة غطاء عربي للقيام بعمليات "عاصفة الحزم"، وإن كان التدخل سعودي خليجي، لاعتبارات أمنية.
تعد عملية عاصفة الحزم أكبر إنجاز عسكري عربي منذ أكثر من ثلاثة عقود، وقد أعاد للوحدة العربية ألقها؛ وإن كان التحالف هشّا لاعتبارات سياسية.
في ظرف دقائق، كانت الأجواء اليمنية تحت السيطرة، بالتزامن مع تدمير شامل للرادارات والدفاعات، ومدارج المطارات والقواعد العسكرية. تم تهريب الرئيس "الكارثة" إلى السعودية، واستمد منه التحالف "الشرعية" لتحركاتهم في اليمن، وفي المحافل الدولية.
عام بلا وطن
ها هو الانقلاب يكمل عامه الأول. عامٌ هو الأكثر سوءا على مر التاريخ؛ عامٌ بلا وطن. عامٌ لم يرَ سوى الحرب والأشلاء، لم يعرف سوى الدمار ونسيج اجتماعي مُمزق، يستحال جسرُ هوّته. عامٌ مذ مزّقوا رايات الوطن الخفّاقة، واستبدلوها برايات العمالة والزيف.
تحالف "الفساد" مع "الطائفية" فكان المولود مسخا مشوّها لا نعرفُ كُنهه. دمروا جيش الدولة ومؤسساتها؛ سرقوا العتاد العسكري، وجرّوه إلى كهوفهم في أقصى الشمال، حسب إملاءات إيران والمرجفين. مزقوا أواصر المجتمع عبر إذكائهم للمناطقية والمذهبية.. دمروا كل جميل في عامٍ واحد فقط!
جاءوا المحاربة الفساد، فتحالفوا مع أخطبوته، وجاءوا بفساد لم يعرفه أحدا من العالمين. يسرقون مقدرات الدولة لصالح أسرة واحدة، تدعي نسبها لآل بيت النبوة الأطهار. هكذا دُفع لهم لتشويه معالم الأمه، ودين السماحة، وآل البيت الكرام. إذا كان الحوثيون من آل البيت، فكيف سيكون كفار قريش مثلا؟!
نهبوا المنازل وسيارات المواطنين- في حروبهم التطهيرية- حتى أعادوا إلى الذاكرة اقتحامهم للعاصمة قبل عشرات السنين ونهب كل ما فيها. إنها ثقافة"النهب" الضاربة في عمق التاريخ؛ محالٌ أن يتخلّصوا منها.
أيلولنا العظيم
لم يكتفِ الملكيون بسرقة مكاسب ثورة سبتمبر، فأرادوا سرقة شمعة "أيلولنا العظيم" الذي يذكرنا بالجمهورية التي سرقوها. منذ أطاحت الجمهورية بالملكيين، عادوا من نافذة الجمهورية ليحكمونا. وعندما حانت الفرصة، أعلنوها مملكةً متوكلية، وفي عيدنا السبتمبري. حكمونا كملكيين، ثم فعلوا ذلك كجمهوريين، وها هم اليوم يُعيدون ماضيهم الأسود، عبر استدعاء أصولهم الفارسية منذ عهد "ذي يزن".
بعد عامٍ أسود، ها هو الوطن ينتفض ليقاوم هذا القبح، ولاستعادة الجمهورية، بمساعدة الأشقاء العرب. فالمقاومة الشعبية الرافضة لوجود هذا السرطان تكافحهم في كافة أرجاء الوطن، ولن يعودوا سوى بالوطن. دولة للجميع، تعايش راقٍ، وجيش وطني لا يخضع سوى لمعايير الوطن.. وأنعم بها أهدافا!
لا سبتمبر سوى 26، ولا ثورة سوى الجمهورية. أيلول يعني الحرية، التضحية، العطاء، والانعتاق. أرادوا سرقة أيلولنا المُبجل، بأيلول مزيف، مُترعٌ بالعبودية والجهل والتخلّف. أيّ أيلولٍ هذا الذي يدعو للرّق، ويعود بالأوطان إلى حقب ما قبل البشرية؟!
قادمون يا سبتمبر، بتضحيات الشهداء، ببذل الدماء والحب للوطن. إنها فاتورة الحرية، وفاتورة النجاة من الغول الطائفي الفتاك. الغول الذي إذا دخل بلدا، نُكست راياته، واستبيحت دماؤه، وطغت الفتن والاقتتال حسب الهويات. قادمون يا أيلول، بمساندة الأشقاء، بوحدتنا العربية، برغبتنا الجامحة للحياة بسلام!!
?