د.عمر عبد العزيز
سمونها «مريوم»، ولا يعرفون من أي مكان أو زمان جاءت، ولكن ما يعرفونه عنها تقريباً أنها امرأة في العقد السادس من عمرها، وأنها نموذج خاص لأنثى طويلة القامة، بملامح خلاسيَّة مُوحية، ووجه صاعق الجمال والتنسيق، وطول فاره مُوشَّى بلطائف الأنامل الرقيقة، والأقدام المعتدلة، وقوة جسدية خارقة.
كل ذلك البهاء يتوارى خلف الصورة الفوتوغرافية الظاهرة لتلك الأُنثى البائسة الرثة.. المُدجَّجة بعشرات القطع من الأقمشة البالية، التي تتسربل بها، كما لو أنها محارة بحر شاخت، فتخشَّبت بفعل الدهر، وامتلأت بنتوءات من الأخاديد والحفر، واستعْصت على حيلة الغواصين، لتخفي داخلها جوهرة ثمينة صعبة المنال.
هكذا بدت مريوم في ظاهرها الرث، وباطنها السرائري العصيِّ على الاستسبار.
يعرفون عنها أنها أميز مجذوبة في الحارة، بل إن الغالبية العظمى كانوا على ثقة بأنها مصابة بمسٍّ من جنون، لكن «حمد الصامت» كان الوحيد الذي ارتقى بها إلى مثابة بهلولة من بهاليل الحارة، وكان على ثقة بأنها تتفرد بسجايا وخصال لا تتوفر لدى الآخرين، بل كان دائم الحرص على تفقد أحوالها وتوفير الطعام لها، كلما لاحظ عليها الجوع، فقد كان من طبائع مريوم أن تبيت على الطوى، متخليةً عن ضرورات الحياة الفيزيائية، متسليةً بجنونها المجنون، وإذا ما سألها أحد من الحارة : متى أكلت آخر مرة يا مريوم؟
تجيب على الفور والساعة: ولماذا أكل شيئاً هو من الكماليات أصلاً ؟!
ذلك القول المختصر يُخرج مريوم من دائرة المجاذيب المجانين، إلى دائرة القول الفلسفي الذي لم يقو أحد في الحارة على استيعاب كُنهه ومعناه.
التائهة القادمة من اللا مكان بدت في حارة البحار الزرقاء كما لو أنها نورس ظلَّ طريقه، وكما لو أنها كائن مقيم في عوالمه الغرائبية حد الخصوصية الخاصَّة، فلم تكن تُعوِّل على ما يجري في الحارة من أخبار وأحاديث وأحوال، ولم تكن ترى في الأفراح والأتراح سوى مناسبات لتأكيد دائرية الوجود، ولم تكن منجذبة لأجواء النسوة المُتْرعة بالمرح والروائح والألوان البهيجة، ولا كانت ذات صلة بمتغيرات الزمان، ولم تعرف معنى الاحتفاء في الأعياد والأفراح في الأعراس، ولم تبكىِ أو تحزن في مأتم، ففي كل اللحظات الاستثنائية لم تكن مريوم حاضرة، ولم يكن لها أدنى صلة بعوابر الأيام وتداعيات الحال.
*الجمهورية نت