مروان الغفوري
في عام 2006 تتبعت خيوط ارتباط صالح بالجماعات الإرهابية في مقالة بعنوان «الحاكم إرهابياً» نشرت في صحيفة الصحوة. حينذاك سادت أجواء الانتخابات في سماء البلد مع إعلان بن شملان موافقته ليكون مرشح الإجماع الوطني. بيدَ أنه سرعان ما حلت أجواء الإرهاب والتفجيرات محل كل ذلك، واختطف صالح المشهد لصالحه، ومن خلفه ارتفعت صورة تراجيدية لسيارات مفخخة خرجت من اللامكان وانفجرت في أكثر من مكان.
بالقاعدة واجه صالح كل الناس، الداخل والخارج، وابتز كل الجهات بحسب حاجته. في واحدة من وثائق ويكيليكس اشترط صالح على الأميركان ترسانة عسكرية لواحد من ألوية الحرس الجمهوري المملوك لنجله مقابل حصولهم على رجل من القاعدة وصفه بقوله «يتحرك تحت أعيننا».
الرجل الذي نشأ عسكرياً وعاش وجدانياً في الماضي لا يرى في التنظيمات المسلحة خطراً على سلطانيته. فالحوثيون، كما يقول في مقابلة تلفزيونية تعود إلى ما قبل 2011، ليسو جبهة عسكرية يمكنها أن تشكل خطراً على الدولة. هم مجرد عصابات، يقول صالح، كبيرُها خلق القلاقل. لكن السياسة يمكنها أن تقضي عليه فيما لو تركت لتمر كما هي، أي كعملية سياسية طبقا لشروطها الداخلية. راح صالح، دائماً، يدخل على السياسة كل الشروط التي لا تنتمي إليها.
ذهب يلعب بالورقة الأكثر خطورة: الإرهاب. وفي 2010 قالت مجلة النيوزويك «إذا كان صالح وغداً فمن المؤكد أنه وغد أميركي». أدرك الأميركيون والسعوديون على نحو مبكر علاقة صالح بالإرهاب، وفي واحدة من وثائق ويكيليكس تتحدث السفارة الأميركية من صنعاء «لدينا اعتقاد عميق بوجود علاقة بين نظام صالح والقاعدة وإن كنا نفتقر إلى الدلائل الحاسمة».
صديقان جنوبيان جلسا إلى جوار صالح في صنعاء ثم فرا جنوباً وذهبا يدونان ما يجري في القصور الجمهورية وله شأن بالإهارب. ففي لقاء مع صحيفة «حديث المدينة»، مركزها في تعز، قال طارق الفضلي إن رئيس جهاز الأمن القومي استدعاه في يناير 2008 وطلب منه التواصل مع القاعدة لأجل تصفية قادة الحراك الجنوبي باعتبارهم شيوعيين. يؤكد الفضلي إن الرجل الأمني الأبرز أخبره أن أميركا، والعالم، سيعتمدون الرواية التي ستقدمها الحكومة، وأن شيوخاً كباراً في صنعاء سيصدرون فتاوى ما. بعد أربعة أشهر من ذلك اللقاء الذي زعمه الفضلي كان الأخير قد التحق بالحراك الجنوبي وترك صنعاء حتى الآن.
الآخر كان حيدرة مسدوس، أحد كبار المفكرين السياسيين في جنوب اليمن. كان مقرباً من صالح مطلع التسعينيات، كما روى عبر صحيفة الوسط. حدثت الفجوة الأكبر بين الرجلين عندما اطلع مسدوس على أشرطة مسجلة تبرز رجالاً عسكريين وهم يوزعون مهام وخرائط على أناس ملتحين ويطلبون منهم التوجه إلى عدن، بحسب رواية مسدوس. بين العامين 1990 و1993 اغتالت أجهزة سرية حوالي 150 من كوادر الحزب الاشتراكي اليمني في الشمال والجنوب. بين الحين والآخر كانت تنظيمات بلازمية بلا ملامح تخرج ببيان يتبنى العملية ثم تختفي إلى الأبد.
حتى الحرب السادسة مع الحوثيين 2009، كان الأخيرون أكيدين أن القاعدة مجرد غرفة صغيرة تابعة لأجهزة صالح. هكذا راح عبد الملك الحوثي وشقيقه البرلماني يحيى الحوثي يتحدثان على مر الأيام، ولا يزال موقع اليوتيوب يوفر مواد مصورة للرجلين وهما يقولان إن القاعدة في اليمن هي علي عبد الله صالح. مؤخراً خلع ناشطون في الفيس بوك اسماً جديداً لصالح: علي عبدالله داعش. لكن ما إن استقرت عربات الحوثيين في شارع السبعين، حيث القصر الرئاسي، حتى اشتغل خطابهم على نفس تردد صالح: القاعدة. توسع الحوثيون في استخدام دالة القاعدة حتى صارت تعني كل لا. وعبر قنواتهم أدخلوا الحائزة على جائزة نوبل للسلام في تنظيم القاعدة، ثم انتقلوا مع الرئيس هادي من كونه راعيا رسمياً للقاعدة إلى اعتبار الرئاسة نفسها خلية تابعة للقاعدة.
استطاع صالح، عبر شبكاته وأجهزته، أن يلتقط الحوثيين ويجري عليهم التحويرات التي يريدها حتى يخوضوا معاركه طبقاً لتوقعاته. ثمة من يشير، وإن بلا دليل، إلى أن الاغتيالات التي جرت في صنعاء ونالت من رجال الحوثي السياسيين نفذتها أجهزة تتبع صالح أو تعمل بالتنسيق معه. وأن صالح أراد من تلك العمليات زرع فكرة القاعدة في عقول القادمين الجدد على صنعاء، إذ لا يزال الشك يملأ رؤوسهم. من الجبال والمنحدرات السحيقة جاء الحوثيون إلى صنعاء بآلات حادة تصلح للقتل وحسب، وكان صالح في انتظارهم. استخدمهم للقتل العلني بعد أن استخدم القاعدة للقتل في الظلام. ومن وقت لآخر راح يلهب ظهورهم بسياط القاعدة، ولم تنطل تلك الحيلة كلياً على قادة الحوثيين، بدليل تدوينات كبار شخصياتهم السياسية والإعلامية عقب التفجيرات التي تحدث من وقت لآخر في صنعاء. لكن القيادات الحوثية مالكة القرار ربما راقت لها اللعبة كونها تعبد الطريق إلى الأماكن البعيدة كما حدث مع تفجير جامعين في صنعاء، الحادث الذي اعتمد عليه الحوثي كلياً في إعلانه عملية «الفتح المؤزر» واجتياح عدن، هناك حيث مركز الجماعات الإرهابية، طبقاً لعبدالملك الحوثي.
في التسع سنوات الأخيرة فر نشطاء القاعدة من السجون عبر طرق ووسائل كلها تشير إلى تواطؤ الأجهزة الأمنية. وتلك أجهزة احترافية من الصعوبة بمكان الاعتقاد أنها تقدم من ذاتها على عمليات خطرة كتلك ما لم تكن تمتثل لتوجيه من جهة سيادية. في 2006 فر 23 من سجن الأمن السياسي في صنعاء بعد أن حفروا نفقاً بلغ طوله 44 متراً. قالت رواية جهاز الأمن السياسي إن عملية الحفر حدثت باستخدام أدوات الطعام. وسمعتُ عجوزاً في صنعاء يعلق «ما عملوهاش جن سليمان». بعد تلك العملية همس اللواء القمش، وعيناه مليئتان بالدموع، في أذن السفير الأميركي «لقد قضى على مستقبلي» كما تصور، على نحو درامي، وثيقة أميركية نشرها موقع ويكيليكس. ولم تكن علاقة الرجلين، صالح والقمش، قبل تلك العملية على ما يُرام. كان الرجل، صالح، قد راح كان يتدارس مع أبنائه إمكانية أن يضع أحدهم يده على الجهاز المُهم. وكعادة القاعدة، فقد شقت طريقاً لتدابير صالح. إنها دائماً تشق له الطريق.
في مطلع العام 2014 فر 29 شخصاً من ناشطي التنظيم من السجن المركزي في صنعاء. تحدث أبطال عملية الهروب إلى الكاميرا وعبر مواقع التنظيم قائلين إنهم صنعوا داخل السجن عشر قنابل شديدة الانفجار، وأنهم كانوا يحصلون على «الأغراض» بيسر. أحد رجال التنظيم يصف لحظة الخروج بدقة متناهية ويتحدث عن تمكنهم من تصفية كل الجنود داخل ذلك الجزء من السجن، وتواصلهم المستمر مع المجموعة التي انتظرتهم في الخارج وحددت مكان العربات التي تنتظرهم.
ومع بدء عملية عاصفة الحزم اقتحم العشرات من تنظيم القاعدة مدينة المكلا وتمكنوا من تحرير حوالي 300 سجيناً من بينهم قادة كبار. منذ سقوط صنعاء بيد الحوثيين توقفت القاعدة عن نشاطها في جنوب غرب اليمن، حضرموت وما حولها. لكنها عادت مرة أخرى مع عاصفة الحزم. ودائماً، في كل الأوقات، كانت أعمال القاعدة تحقق صنيعاً عظيماً لصالح ولم يحدث قط أنها قامت بأعمال آلمته أو أحرجته، أو أربكت ترتيباته. لم يكن صالح، على مر الأيام، أحد الخاسرين في المعركة الدائمة ضد «ما يعتقد» دائماً أنه القاعدة. وفي أغلب الحالات كانت القاعدة تبرز إلى المشهد لتصنع جسوراً لصالح.
الوطن القطرية