حسين الوادعي
شخص ملثم يوصل عددا من الأسلاك ببعضها ثم يخرج من المنزل مسرعا ليضغط على جهاز التحكم عن بعد، فينفجر المنزل ويتطاير إلى شظايا من الغبار والتراب، بينما صيحات "الله اكبر" تتصاعد من أفواه الرجال الملثمين.
تتلاشى صور الدمار ويغادر الملثمون المنتشون بصرخات النصر ورايات "الجهاد"، لتتوقف الصورة عند صبي صغير أشعت الشعر، يقعد يائسا حزينا أمام منزله المهدم ضعيفا ومعزولا أمام مستقبل مجهول وحياة قاسية لا يفهم لماذا تتعامل معه هكذا....
هذان المشهدان يمثلان التسارع المتزايد لظاهرة تفجير المنازل كجزء من "العقاب السياسي" في البلدان التي أصبحت ساحة للحروب الأهلية والمواجهات الطائفية.
لدينا أربع دول عربية على الأقل صار تفجير المنازل فيها ظاهرة يومية في إطار صراع الميلشيات الطائفية التي تسيطر على الأرض.(العراق وسوريا واليمن) بالإضافة الى (مصر)، وإن كانت الظاهرة لازالت محصورة في سيناء فقط.
في اليمن وقف اليمنيون مذهولين أمام ظاهرة تهديم مئات المنازل والمساجد في صعدة والجوف ومأرب وعمران وصنعاء والبيضاء وذمار وأبين وشبوه واب، منذ استيلاء الحوثيين على العاصمة في 2014 وفرضهم لسلطة الأمر الواقع. بعض هذه البيوت كانت لأشخاص منخرطين في مواجهات عسكرية ضد مليشيات الحوثي، لكن الكثير منها كان ملكا لأشخاص لم يكن بينهم وبينها أي قتال.
في نماذج هدم المنازل في اليمن نلاحظ أن "التفجير" يرتبط عضويا بسياسة "التأديب" و"التهجير". فتدمير منزل عائلة ما أو منازل قرية معينة، الهدف منه تأديب المقاومين وردعهم. لكنه أيضا يؤدي إلى إنهاء ارتباط الناس بالأرض التي يعيشون عليها وتشريدهم أو تهجيرهم. يهجر الحوثيون العائلات التي تقاوم أو تنتقد الجماعة وأحيانا يجري تدمير حي بأكمله من أجل الاستيلاء عليه (خور مكسر، كريتر). ومن الطبيعي أن تتلو سياسة التهجير ممارسات مثل "احتلال " البيوت التي لم يتم تفجيرها والسكن فيها من قبل المليشيا المنتصرة باعتبارها "غنيمة".
وإذا وضعنا في الاعتبار أن كافة التنظيمات التي تمارس سياسة "تفجير المنازل" في الدول الأربع هي بمعنى أو بآخر تشكيلات طائفية مقاتلة. وإذا تذكرنا أن التنظيمات الطائفية لا تكتفي فقط بالاستيلاء على السلطة بل تسعى أيضا للاستيلاء على المجتمع (وتهجيره أو تدميره حين يستعصي الاستيلاء عليه)، فإن سياسة تفجير المنازل لا يمكن فهمها إلا في إطار نقل الصراع من السلطة إلى المجتمع ومن "المنافسة السياسية" إلى "التطهير الطائفي". والتطهير هنا لا يعني بالضرورة القتل بل قد يتخذ أشكالا عدة من التهميش والسيطرة والقمع العنيف.
إلى جانب التأديب والتهجير فإن تفجير المنازل نوع من "العقاب الجماعي". فالإصرار على تشريد عائلات الخصوم السياسيين ليس اعتباطا، وإنما هو مرتبط بسياسة "الصدمة والرعب"، وإرسال رسائل قاسية إلى الجميع تهدف للقضاء على أي إمكانية للمقاومة بجعل ثمنها غاليا جدا وجماعيا، بحيث يصيب العائلة بأكملها أو المدينة بأكملها أحيانا، وتصبح المدينة مجبرة على الوقوف بنفسها في وجه المقاومين من أبنائها حتى لا يتعرضوا لغضب المليشيا.
تفجير البيوت بهذا المعنى ليس عقابا جماعيا فقط، بل هو عقاب عابر للأجيال. العقاب يشمل هنا عدة أجيال من العائلة التي ستفقد ارتباطها بالأرض وستهرب خوفا من الانتقام وستعيش في فقر مدقع بعد تفجير منزلها. وبما أن التنظيمات العرقية أو الطائفية المسلحة تنظر للآخر دائما كعدو محتمل يجب قتاله حتى ولو لم يكن متورطا في مواجهتها بشكل مباشر، فإن الصراع العرقي أو الطائفي غالبا ما يكون طويلا ومتناقلا عبر الأجيال بأحقاده وثاراته التي لا تنسى.
في اليمن يمكن اعتبار عدن وتعز على سبيل المثال نموذجين لتأديب مدينة كاملة بتدميرها حتى لا "تقترف" خطيئة المقاومة مرة أخرى. وهي رسالة أيضا للمدن الأخرى أن الجماعة صارمة في التعامل مع أي مقاومة! في يوم واحد فقط فجرت جماعة الحوثي أكثر من 20 منزلا في قرية صغيرة في مديرية أرحب بمحافظة صنعاء.
تهدف الجماعات المسلحة من تفجير المنازل إذا تحقيق عدة أهداف: التأديب والتهجير والتطهير والعقاب الجماعي. وفي النهاية القضاء على إمكانيات وبؤر المقاومة عبر جعل ثمن المقاومة غاليا جدا وعابرا للأجيال. لكن هذه السياسة لا تنجح دائما بل قد تؤدي إلى توسيع قاعدة المقاومة. وهي في كل الأحوال ظاهرة ستظل صادمة ومؤلمة للضمير الجمعي اليمني لسنوات طويلة.