د. رغيد الصلح
من الفرضيات الرئيسية وراء الدعوة إلى قيام التكتلات الإقليمية في العالم أنها سوف تساعد على قيام مجتمع دولي أكثر عدالة من المجتمع القائم. والمقصود هنا ليس العدالة بين الأقاليم، ولا حتى بين الدول القومية غفط، بل داخلها أيضاً. وحسب هذه النظرة فإن التكتل الإقليمي يعزز فرص النمو الاقتصادي، ومن ثم التضامن الاجتماعي والحقوق السياسية والثقافية للدول المنتمية إليه.
ومن المفروض أن تنطبق هذه القاعدة على الدول التي يتشكل منها النظام العالمي الراهن، ولكن الواقع لا يؤيد دائماً هذه النظرة، إذ نجد أن الدول الصناعية السبع، التي بلغ مجمل الناتج القومي فيها 34.507 تريليون دولار للعام 2013، لا تقل اهتماماً بالأقلمة من غيرها من الدول مثل دول منطقة «مينا» التي لم يتجاوز مجمل الناتج فيها خلال العام نفسه 3.7 تريليون دولار، كما جاء في الكتاب السنوي لمجلة «الإيكونوميست» للعام الفائت.
ونحن هنا لا نتحدث عن نجاح القوى الكبرى في قيام ونمو الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضاً عن سعي الولايات المتحدة إلى تحقيق منطقة للتجارة الحرة لكل من دول حوضي المحيطين الأطلسي والباسيفيكي. وبموازاة هذا المسعى، فإن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بتفوقها العسكري الكبير على سائر الأطراف الدولية.
ومن المستطاع قراءة هذا الواقع من خلال أرقام ميزانية الدفاع الأمريكية، إذ إنها بلغت عام 2013 ما يوازي مجموع ميزانيات ثلاث عشرة دولة حلت بعد الولايات المتحدة من حيث حجم إنفاقها على التسلح.
وإذا نجحت الولايات المتحدة في تحقيق المشروعين الأطلسي والباسيفيكي اللذين هما في الحقيقة مشروع واحد، فإن آثاره لن تنحصر في المجال الاقتصادي فحسب، وإنما ستتجاوزه إلى الآثار السياسية والاستراتيجية المدى، كما يلاحظ كريستيان ايهلر، البرلماني الأوروبي المختص بالعلاقات الأوروبية-الأمريكية.
فتتعزز الزعامة الأمريكية داخل الاطلسي، والمكانة الأطلسية في النظام الدولي، وتتوفر الظروف المناسبة لاحتواء الصين وتهميش روسيا والدول الأخرى التي تحاول تحدي الزعامة الأمريكية.
وإذا كان من المقدر لهذا المشروع أن يحجم الصين وروسيا، فأين الدول العربية منه، وكيف لها أن تصون مصالحها وأن ترعى حاجاتها وأمانيها، وهي محاطة بمشروع من هذا النوع؟ بديهي أن هذه الدول سوف تكون عاجزة عن الإيفاء بأي من هذه الأهداف.
حينما نقول ذلك لا نتحدث عن عجز الدول العربية عن تحقيق الرفاه والأمن لشعوبها في الوضع المأساوي الراهن، بل نتحدث عن المجتمعات والدول العربية في حالها «الطبيعي» الذي سبق العقد الحالي من الزمن. بل نذهب إلى أبعد من ذلك، إذ نقول إنه حتى إذا لم يتحقق مشروع أوباما في نشر جناحي الولايات المتحدة عبر الأطلسي والباسيفيكي، فإن استمرار الأوضاع الراهنة في المنطقة العربية يعني تحولها إلى «مكب أممي»، ترمي فيه الأمم والشعوب كل ما تريد التخلص منه من الآفات والمصائب والحروب.
قد تتمكن الدول العربية من تجاوز هذه الخيارات المؤلمة لو أسرعت الخطى على طريق تنفيد مشروع التكتل الإقليمي العربي. فلنذكر أن المشروع الآسيوي، أي تأسيس «منظمة آسيان» ولد من حطام حرب فيتنام التي تجاوز ضحاياها 3,5 مليون قتيل. ولنذكر أيضاً أن المشروع الأوروبي ولد من حطام الحرب العالمية الثانية التي ذهب فيها ما لا يقل عن 35 مليون قتيل. هذه الخسائر البشرية المرعبة كانت حافزاً لبناء التكتلات الإقليمية وليس للتقاعس عن تحقيق هذه المشاريع.
الحروب المجنونة التي تجتاح المنطقة العربية اليوم لم تفض الى مثل هذه الخسائر حتى الآن، ولكن هناك في الأفق المنظور ما لا يمنع تفاقهما وارتفاع حجم الخسائر البشرية فيها. فضلاً عن ذلك، فإننا لا نمارس الانتحار والتدمير الذاتي الجماعي فحسب، وإنما نفوت على أنفسنا فرص الاستفادة من ولادة عالم جديد يكافئ الشعوب المجدة والواعية.
في هذا العالم شهدنا بالأمس كيف تمكن الأوروبيون من معالجة أزمة اليونان على نحو يحفظ لها نظامها الديمقراطي، ويحفظ لأوروبا نظام اليورو. هذه النتائج تساعد على نمو نظام عالمي تعددي، وعلى إبعاد شبح الآحادية الدولية وتسلط قطب واحد على النظام الدولي. إن تاريخ أوروبا مع الشعوب الأخرى لم يكن ناصعاً دوماً. ولكن مساهمة أوروبا في بناء نظام التعددية الدولية يفيد كل شعوب العالم التي تريد بناء تكتلاتها الإقليمية، ومنها العرب، على نحو يخدم مصالح وأماني الجميع.
كذلك شهدنا في الوقت نفسه تقريباً، كيف توصلت الولايات المتحدة إلى تفاهم مع إيران بصدد البرنامج النووي الإيراني. لهذا الحدث أهميته من حيث إنه يخفف حدة التوتر بين البلدين، ويوفر على المنطقة المزيد من المآسي. ولكنه، من ناحية أخرى، قد يحمل أيضاً المزيد من الصراعات إذا اطلق يد إيران في تنفيذ ما يدعى بالمشروع الفارسي بالمنطقة، بدلاً من الاقتناع بجدوى علاقات حسن الجوار والصداقة بين الإيرانيين والعرب.
إن واشنطن سوف تسارع إلى إقناع الدول العربية بأنها لن تتخلى عنها. ولكن الدول العربية تملك من التجارب ما يعصمها من الركون إلى هذه الوعود. إن سجل العلاقات العربية-الغربية مملوء بالوعود المنسية. ألم يعِد بلفور بقيام وطن قومي يهودي شرط ألا تمس حقوق الطوائف الأخرى؟ إن الطريقة الأفضل للتعامل مع الحدث الأمريكي-الإيراني هو أن تسرع الدول العربية الخطى باتجاه تعزيز قدراتها الذاتية.
إن بناء القوة العربية المشتركة هو خطوة ضرورية على هذا الطريق. وتحريك وتحفيز اتفاق منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى (غافتا) هو الركيزة الضرورية الثانية لهذه الاستراتيجية.
*نقلا عن الخليج