د. أحمد قايد الصايدي
ضم الحزب الإشتراكي اليمني أهم فصائل العمل الوطني، ومارس الحكم منفرداً في الجنوب، ثم شريكاً في السلطة، في السنوات الأولى من عمر الوحدة اليمنية، ثم أُقصي من السلطة وأُقصي أعضاؤه العسكريون والأمنيون وبعض المدنيين من وظائفهم، وهُمِّش من بقي منهم، وحيل بين من همشوا وبين الممارسة الفعلية لمهام وظائفهم. واتُّخذت إجراءات عديدة، بهدف إضعافه وتشتيته، فتم وضع اليد على مقراته وأمواله، واشتغلت مطابخ الإشاعات وتلفيق الأخبار في تشويه صورته وتلويث سمعته. وبُذلت الجهود لاختراقه واستخدام وسائل الترغيب والترهيب لاحتواء بعض قياداته. ورغم ذلك فقد تمكن من تجاوز المرحلة الصعبة وتخلص من بعض أزماته وحافظ بالحد المعقول على كيانه التنظيمي. ولكنه لم يتعاف بشكل كامل. وظلت الأزمات السابقة، التي ورثها من سنوات الإنفراد بالسلطة وسنوات الشراكة، ثم من حرب 1994م وآثارها السلبية، الممتدة حتى اليوم، ظلت مؤثرة في أدائه، لاسيما في أدائه التنظيمي والثقافي.
وكمراقب من خارج الكيانات الحزبية، لا أملك إلا أن أقر بأن قدرة الحزب على حفظ كيانه، رغم كل المصائب، التي توالت عليه، والضربات القاسية، التي وُجِّهت إليه، والتي كان أي منها كافياً لإنهائه، وإحالته إلى مستودع الماضي وإلى صفحات التاريخ، لا أملك إلا أن أقر بأن هناك مايستوجب التأمل في تاريخ هذا الحزب وفي بنيته وفي مايمثله بالنسبة للقضية الوطنية. لأن أي حزب تتوالى عليه بعض الكوارث، التي توالت على الحزب الإشراكي، لايمكنه أن يحافظ على كيانه ويستمر في ممارسة الفعل السياسي المؤثر، متجاوزاً الكوارث، التي حلت به، إذا لم تكن له قضية ولا يمتلك مشروعاً وطنياً ولايجسد أملاً لأوساط واسعة من اليمنيين.
لم أخف أبداً ملاحظاتي النقدية على بعض جوانب القصور في أداء الحزب، لاسيما أداءه التنظيمي والثقافي. ولكني مع ذلك لم أتوقف، سواءً بين الأصدقاء، أو مع بعض قيادات الحزب ومنتسبيه، لم أتوقف عن ترديد عبارة "إنني أراهن على الحزب الإشتراكي، كحامل لمشروع المستقبل". وعندما أخلو إلى نفسي، أتساءل: ألست مخطئاً في رهاني هذا؟ إن وضع الحزب وحجم التخلف العام في البلاد ونوع القوى، المناهضة للمشروع الوطني، والأخطاء، التي وقع فيها الحزب عبر مسيرته، وأوجه القصور، التي نلمسها في أدائه، تجعل الرهان عليه، في الوهلة الأولى، ضرباً من الوهم. فما هي مسوغات هذا الرهان؟
كما قلت، إن أهم فصائل العمل الوطني، الحاملة لمشروع المستقبل قد انصهرت في الحزب الإشتراكي. وهذا في حد ذاته يشكل رصيداً له، لايستهان به. كما أن بين قياداته وقواعده قامات كبيرة، مشهود لها في العمل الوطني، عبر مراحله المختلفة، كانت دائماً في مقدمة الصفوف، في كل المحطات الهامة في تاريخ اليمن المعاصر، من سبتمبر وأكتوبر وحتى الآن. وهذه قامات نجحت في الحفاظ على نقائها ونزاهتها وطهرها، رغم كل المغريات، ورغم الفرص السهلة المتاحة للكسب غير المشروع والتمرغ في أوحال الفساد الممتع. فبقيت رموزاً وطنية نظيفة، تمثل مركز جذب للحالمين بمستقبل أفضل لليمن ولليمنيين، وقدوة لأجيال الشباب، المعوَّل عليهم في قيادة مشروع النهوض. وعدا عن هذا وذاك، بدا الأداء السياسي للحزب الإشتراكي، مقارنة بمجمل القوى السياسية، أداءً معقولاً، رغم الصعوبات التي عاشها ومايزال يعيشها.
لعل هذه من أهم العوامل، التي ساعدت الحزب على الإحتفاظ بكيانه ودوره ووجوده، كما ساعدته على أن يتبوأ مكانته المتميزة، بين أحزاب المستقبل الأخرى. وسيبقى الرهان عليه مبرراً، في ظل ضعف عام تعانيه الأحزاب، شريطة أن يعيد ترتيب أوضاعه الداخلية، ترتيباً يعزز تماسكه ويسهِّل حركته ويضاعف تأثيره، ويمكِّنه من التوسع التنظيمي وحشد اليمنيين حول مشروعه، الذي يجب أن يكون مشروعاً واضحاً، لالبس فيه، وقابلاً للتحقيق. ولابد أن يكون منطلق هذا المشروع بناء الدولة المدنية الديمقراطية العادلة، والدفع بعجلة التنمية بقوة إلى الأمام، وتحقيق الإستقلال الوطني، بمضامينه الثقافية والسياسية والإقتصادية والأمنية.
ولعل من بين عوامل الوهن، الذي نلمسه في جوانب من أداء الحزب، تعب بعض قياداته، وإلقاء العبء كله على عدد محدود منها، يقابل ذلك حماس قواعده الواسعة. ومثل هذا الوضع يحدث إرباكاً داخلياً، وقد يولِّد تذمراً وإحباطاً في أوساط قواعده، التي تشعر بأن المستويات القيادية لم تعد قادرة على العمل بوتائر تجاري طموحاتها وترتقي إلى مستوى الأحداث الراهنة، بكل تعقيداتها وسخونتها. وهذا أمر يرفع من مستوى التوترات الداخلية ويحدث فجوة، بين قيادات الحزب وقواعده، قد تتسع إذا مااستمر الحال على ماهو عليه.
وفي الحالات العادية تلجأ القواعد المتحمسة إلى ابتداع أشكال من العمل والنشاط، تعوض بها عن قصور القيادات، ولكنها لاتنهي التوتر الداخلي. وفي الحالات غير العادية، قد تجتهد العناصر الأكثر حساسية في إيجاد أطر حزبية، تظن أنها تصلح بديلاً لحزبها، الذي ترى بأنه لم يعد قادراً على توظيف قدراتها وإرضاء طموحاتها. وهذه حالة شهدتها أحزاب عربية، ذات تراث وتاريخ طويل. ولكنه خيار فشل حتى الآن في كل الساحة العربية. ويمكن القول، إن الحزب الإشتراكي لم يبلغ فيه التوتر الداخلي حداً يهدد وحدته التنظيمية ويساعد على تفريخ أحزاب بديلة، تمثل ظاهرة عابرة، شهدنا تلاشيها، في أكثر من بلد عربي، بالسرعة التي ظهرت بها. وهو مايفرض على قيادات الحزب أن تسارع إلى معالجة أوجه القصور، بحيث يرتقي أداؤه إلى مستوى طموح قواعده.
لانملك، بطبيعة الحال، وصفة جاهزة، أو تصوراً واضحاً، للطريقة، التي يمكن للحزب أن يتجاوز بها أوجه القصور، ويعزز الجوانب الإيجابية فيه، التي ظل محتفظاً بها حتى اليوم، بل وليست هذه مهمتنا أصلاً. إنها مهمة قياداته، فأهل مكة أدرى بشعابها. ولكني متفائل، بأن مؤتمره الوطني، المنعقد الآن، هو محطة مهمة، يراجع فيها حساباته ويرمم أوضاعه الداخلية، لينطلق عبره نحو عمل أكثر فاعلية وتأثيراً في مسار الأحداث وفي بناء الحاضر والمستقبل. الأمر الذي سيجعل رهاننا عليه، رهاناً رابحاً. وعلى الحزب، قياداتٍ وقواعد، أن يدرك بأننا في وضع لا نستطيع أن نتحمل فيه خسارة هذا الرهان، وأن معظم اليمنيين يرنون بأبصارهم إليه وإلى مؤتمره الوطني، وما سيتمخض عنه من نتائج، نأمل أن تعيد للحزب حيويته وتبرر لليمنيين أمثالي مراهنتهم عليه.
* الاشتراكي نت