مروان الغفوري
يعرّف الإرهاب ب"استخدام السلاح، أو التلويح باستخدامه لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو إثنية". وما يمنح تنظيم الدولة الإسلامية IS صفة الإرهاب ليس القتل نفسه، بل القتل الديني والسياسي. فتنظيم الدولة يقتل لأجل نظرية، إيديولوجيا. وكذلك يفعل تنظيم الحوثي. فقد كتب محمد عبد السلام، الناطق المركزي للحزب وأهم من يعبّر عنّه، أكثر من مرّة عن حروب الحوثيين بحسبانها حركة حتمية لأجل “السيادة الثقافية" و"استرداد الهويّة" وإحياء"الأمة ذات الثقافة والتاريخ". أما عبد الملك الحوثي فحركته المسلّحة تهدف في الأساس لاستعادة مجد الأمّة. وطبقاً للغة الحوثي نفسه فإن الأمة أصابها الوهن لأنها تخلّت عن الولاية. والولاية في النظرية الهادوية هي الحكم، وهي حصرية، وتوقيفية. وبعد شرح يطول أو يقصر ستعني كلمة "الولاية": عبد الملك الحوثي، ولا توجد نتائج أخرى ممكنة. الإضافات التي قدّمها الإمام الهادي على المذهب الزيدي اشترطت أن يكون الحاكم "مجاهداً ومجتهداً، يسارع إلى السيف كما يسارع إلى القلم". ولم تحدّد جغرافيا لحركة السيف، ولا طبيعة المعارك. فكل ما يهدد فكرة الولاية لا بد من دحره بالسيف. كل حروب الحوثي، إذن، دينية. وهي تهدف، أولاً وآخراً، لتحقيق غاية دينية ذات طابع سياسي وإثني. لقد استكمل الحوثي شروط تعريف الإرهاب بطريقة أكثر جلاءًا من تنظيم الدولة الإسلامية.
خلق الحوثي جماعته الخاصة ومنح كل فرد فيها درجة "مجاهد". وخاض حروبه بالمجاهدين، لا بالمقاتلين. وهي حرب، بالتعريف العملي والنظري، دينية. وبمجرّد أن يكون أحد الطرفين مجاهداً تصير الحربُ دينية. والحرب الدينية هي تلك الحرب التي يعتقد طرفٌ فيها على الأقل أن الله معه، وأن الجنّة في انتظاره. وسرعان ما تنزلق الدينية إلى الإرهاب، على وجه الخصوص حين تكون حرباً هجومية، أو داخلية، أو الحالين معاً.
مما سبق فحمزة الحوثي قائد ضمن جماعة إرهابية. وقد تسببت حركته بمقتل حوالي 13 ألف يمني في العامين 2014 ـ 2015 بحسب مركز رصد محلّي. كما قادت الحركة سلسلة من المعركة أدّت إلى انهيار الدولة، ثم انهيار المجتمع، وعزلت اليمن كلّياً عن العالم. توزّعت الجرائم العملية لحركة الحوثي من تفخيخ أجساد الأطفال إلى وضع الصحفيين والسياسيين كدروع بشرية، ومن حصار المدن وقصف المنازل بالدبابات حتى استخدام الأيتام واللاجئين والمهمّشين كمقاتلين بالإكراه. تبقى الجريمة الكبرى هي تدمير الدولة وتفكيكها، بما يفتح الباب الواسع لكل أنواع الانهيارات والشرور.
حمزة الحوثي قائد في جماعة صنعت أكبر خراب في تاريخ اليمن منذ انهيار السد. ولم يحدث في تاريخ اليمن قط أن وجد فيها، في وقت واحد، 21 مليون جائع، كما تقول التقارير الأممّية.
في جنيف رشقت فتاة سويسرية، من أصل عدني، الشاب حمزة الحوثي بحذائها. وكان واضحاً أن الرشقة رمزيّة، فقد كانت خفيفة. أمسك الحوثي بالحذاء وهم بضربها بقوة، لكنه تماسك في اللحظة الأخيرة وألقاه عليها بقوة أقل. وقال مخاطباً أناساً لا يعرفهم "دعوها تمر". هي مواطنة سويسرية، وهو وافد على البلد، تحاصره القرارات الدولية. ومع ذلك فقد غفر لها فعلها وتركها تمرّ، كما لو أنه عمدة جنيف، وهي لاجئة. يا للسخرية! حتى هذه الطرفة أثارت إعجاباً!
وسبق، في التاريخ، أن دخل الخوارج بستاناً وبقروا بطن امرأة وأخرجوا جنينها، فهي امرأة عدوٍ لا يحبّون سماع اسمه. قام أحدهم وأكل تفاحة من البستان فقضى الخوارج يوماً كاملاً يبحثون عن صاحب البستان لينقدوه ثمن التفاحة. فهم قوم ذووا أخلاق، لا يأكلون الحرام حتى وإن كان تفاحة. مسألة شق بطن امرأة حامل بالسكّين لا تستحق الكثير من التأمل، فهي أمورٌ تحدث. على المرء، وهذا هو المهم، ألا يأكل تفاح الآخرين بغير علمهم. وذهب الحوثيون يقتلون الرجال في الشوارع ويختطفونهم من المنازل وعندما تمرّ نساؤهم يخفض الحوثيون أجنحتهم ويتمتمون "تفضلي يا أخت". ويا لها من أخلاق!
داخل هذا النموذج التاريخي تحرّكت أخلاق حمزة الحوثي. لدوركاييم توصيف دقيق لهذه الظاهرة: الأنومي، أو اللامعيارية. أن تمتلك جماعة من البشر مقاييس متناقضة للأخلاق فيحرمون دم الذبابة ويحلّون دم الحُسين، كما في الأمثولة التاريخية المعروفة.
لم يتعرّف الحوثيون على الأخلاق قط، فهم منذ الطفولة يدرسون الحروب ويجرّبونها، والمرء لا يتعلم الأخلاق في الحروب. وقبل عام نشر الحوثيون صورة للقيرعي، أحد مهمّشي مدينة تعِز، وهو يصافح عبد الملك الحوثي. امتدح كثيرون نبل السيد وتواضعه. أما الصورة نفسها فكانت تقول الآتي: انظروا إلى عبد الملك الحوثي كما هو طيب ومتواضع، فقد صافح أقذر الناس! ذلك أن مئات الشخصيات زارت عبد الملك الحوثي وصافحته ولم يسمح بالتقاط صور له، سوى تلك الصورة مع القيرعي!
ويا لها من أخلاق!
حمزة الحوثي، بالتوصيف القانوني، قاتل. وبالتوصيف الجنائي رئيس عصابة تعمل في القتل، لا في السرقة. يعتقد بعض اليمنيين أن عصابة الحوثي تتمتع بأخلاق عالية لأنها لا تعمل في السرقة. يتجاهلون حقيقة أنها عصابة للقتل، لا للسرقة. السرقة ليست مهمّتها.
الرجل الذي كان يجلس إلى جوار حمزة الحوثي في "يوم الحذاء" اسمه ياسر العواضي، وسبق أن قال إنه رأى الجنّة والحور العين. كان العواضي قد نشر صورة له بصحبة أبو علي الحاكم، قبل عامين، قائلاً إنه لم يجد أكثر نبلاً وأخلاقاً من ذلك الرجل. أبو علي الحاكم مسؤول بصورة مباشرة عن اقتحام المدن وتفجير المنازل واختطاف الخصوم وإلقاء المدفعية على القُرى. وفي الطريق الذي شقّه أبو علي الحاكم من صعدة إلى عدن تسبب الرجل بمقتل وجرح عشرات الآلاف، وتدمير بنية الدولة الهشّة. كما صنع حزاماً نارياً من الثارات والشك والكراهية واليأس. لا توجد جرائم أكثر فداحة من تلك التي سجّلها أبو علي الحاكم، وجماعة حمزة الحوثي.
الحاكم يبتسم، ويثني على الله كثيراً، ويقول إنه تحت خدمة اليمن. العواضي نظر إليه، وسمعه. وبناء على ذلك فقد رآه واحداً من خيرة الرجال في اليمن. العواضي نفسه عمل مزوّداً للقتلة، وقد سبق أن ارتكب رجاله جرائم قتل في حق شباب الثورة في العام 2011. لا يرى الرجل في القتل شأناً فادحاً. إنها مجرّد عملية/صيرورة، أو بروسيس. القتل، لدى جماعة الحوثي وجماعة العواضي، آلة للتفاوض. أما أعداد القتلى فيجري تحويلها إلى "حُزَم" من شأنها أن تحقق أرباحاً إذا أجيد استخدامها!
خلال العامين الماضيين أحدثت جماعة حمزة الحوثي خراباً شاملاً، وكانت السبب في وفاة شخص واحدٍ على الأقل من كل ثلاث حالات وفاة في اليمن. لا توجد كارثة، أو نكبة، تصنع هذا المعدل المرتفع من الموت. لقد تفوّقت حركة الحوثي ـ هكذا تقول الأرقام، والأرقام قوّة، على كل الأوبئة. أما الخلفية التي تحيط بتلك الجنازة الكبيرة فهي "مسيرة قرآنية" وجهاد. أي حرب دينية. والحرب الدينية على تلك الشاكلة هي إرهاب بالتعريف القانوني والأخلاقي، والحضاري إجمالاً.
في هذا الإطار يجدر النظر إلى أخلاق حمزة الحوثي .. العظيمة. فالصحفيّة السويسرية، ذات الأصل العدني، فقدت على الأقل ثلاثة من أسرتها على أيدي جنود حمزة الحوثي، طبقاً للمعلومات التي نشرها الصحفي العدني شادي ياسين. وكانت تلك هي الخطيئة الحقيقية لحمزة الحوثي، مقابل إلقاء المرأة للحذاء.
كتبتُ قبل عامين "ليس صحيحاً أن الحركة الحوثية سيئة الأخلاق. الحقيقة أنها لم تعرف الأخلاق قط". وقد وقف القاتل، أحد زعماء العصابة المدمّرة، في نهار جنيف الصافي وهو يرتدي بذلة أنيقة وتحدّث وابتسم. كان قد سرّح شعره وتأكد أن لون القميص يليق بلون الجاكِت. وعندما قذف بحذاء وهو على المنصة أعاد رمي الحذاء تجاه صاحبته، ولم يحتفظ به على الطاولة كما يفعل الرجل المتحضّر. لكنه بدا مثيراً للإعجاب عندما احتفظ برباطة جأشه. اليمن مطعم سلتة كبير، وكان من المتوقع أن يتطاير الحوثي على المنصّة كما يفعل زبائن مطعم السلتة، ومدرة السلتة نفسها. ولأنه لم يفعل ذلك فقد نال إعجاب بعض اليمنيين. وإذا نزعت الحذاء والبذلة والمنصة من على حمزة الحوثي ستعثر عليه عارياً وحقيقياً ومجرّداً: قائد حركة تسببت خلال عامين بمقتل حوالي 13 ألف يمني، ومجاعة شاملة لحوالي 21 مليوناً، وعشرات آلاف العالقين والجرحى. ذهب الرجل إلى جنيف وتعهّد باستكمال الحرب، أي بمزيد من كل ذلك الهلاك. ولكنه، أيضاً، بدا متماسكاً وهادئاً بينما كانت امرأة ترشقه بالحذاء. ويا لها من أخلاق!
القتل أم الجرائم، لا توجد جريمة أكبر. وفي الإسلام: لا توجد معصية تستوجب الخلود في النار سوى القتل. والقتل، إجمالاً، هو نشاط حمزة الحوثي، فهو لا يحاضر في القانون وليس باحثاً ما بعد حداثي. إنه يطلق الرصاص، وعندما يصيب الآخرين يكون مسروراً وسعيداً. ولطالما أصابه كرب عظيم عندما لم يقتل ما يكفي من الناس، وعندما كان يُقال له إن فلاناً من
القرية التي على الطريق فرّ، ولم يُقتَل.
قتل حمزة الحوثي ثلاثة من أسرة ذكرى العراسي، وتركها حرّة طليقة. حتى وهي مواطنة سويسرية وهو وافد احتجزت السلطات وثائق سفره فقد تحدث إلى الناس كما لو أنه عمدة جنيف: دعوها. وقال التنابلة: يا للنُبْل.
نحن بلد رخو، بلا معايير. وفي هذا السديم المُهلك من اللامعيارية والترهّل نشأت الحركة الحوثية. ولو احتفظ المجتمع بقدراته المنطقية، وصرامة مقاييسه ومعاييره لما كبرت تلك الحركة الإرهابية وصارت بهيموث يبتلع كل الأشياء.
* من صفحة الكاتب على موقع فيس بوك