الأرشيف

حرب مصطلحات

الأرشيف
الأحد ، ١٤ يونيو ٢٠١٥ الساعة ٠٥:٢٧ مساءً

تاج الدين عبد الحق


للمصطلحات وظيفة أبعد من التوصيف وأشمل من التصنيف. فهي في كثير من الأحيان تأتي  تعبيراً عن موقف كامل، أو تستخدم  إخفاءً لحقائق، وطمسا لمعالم، أو توظف كوسيلة للتأثير، أو لتشكيل الرأي العام.

 

وفي تاريخنا الحديث مصطلحات تجاوزت معانيها اللفظ المجرد، لتصبح عنوانا لحالة، أو إطارا لاختصار مرحلة، وطريقا لاختزال مواقف وسياسات.

 

النكبة كانت من تلك المصطلحات، التي حفرت عميقا في ذاكرتنا، يوم كان ضياع فلسطين وهزيمة الجيوش العربية في عام 1948، أكبر من طاقة الاحتمال، فاعتبرنا أنها مصيبة المصائب، التي لم يكن، أو لن يكون لها مثيل، لا حاضرا ولا مستقبلا.

 طبعا لم يكن أحد يظن أن نكبة فلسطين هي مقدمة نكبات، ومحطة في سلسلة لا تنتهي من المحطات، وأنها ستتالى وتتوالد باستمرار وإن بمسميات مختلفة وأشكال أخرى.

 

فجاءت النكسة كنسخة جديدة من النكبة الأولى، وإن بمصطلح مختلف يهوّن من وقع هزيمة 1967، رغم أن آثارها لم تقل عن آثار النكبة، لا من حيث ارتداداتها النفسية ولا من حيث نتائجها المادية، والإنسانية التي لا زالت مستمرة إلى الآن.

 

 مصطلح الشرق الأوسط، الذي شاع تداوله كتوصيف للصراع العربي الإسرائيلي، هو الآخر من المصطلحات التي نحتت، عن سابق تصور وتصميم، وبوعي كامل،  في وجداننا، فكان وسيلة  لتمرير مواقف سياسية، ورسائل إعلامية.

 

 إذ ساعد هذا المصطلح، في تعويم المواجهة وخلط الأوراق في المنطقة، مرة للإفلات من الاستحقاقات الأساسية الواضحة، والمحددة، المتمثلة بالاحتلال وما نتج عنه من لجوء واستيطان واعتقال. ومرة لحماية بعض الأنظمة العربية التي وجدت في تعويم الصراع، وتوزيع أعبائه على دول الإقليم بكامله، ما يجنبها المساءلة المباشرة من شعوبها، وما يستر عجزها وقصورها وفسادها، ويضمن استمرار تسلطها وهيمنتها على مقدرات ومصائر الناس وكراماتهم.

 

في الخليج استخدمت مصطلحات للتهوين أو التهويل. ففي توصيف غزو الكويت في عام 1990، استخدم أنصار الرئيس صدام حسين ومحبوه تعبير دخول القوات العراقية للكويت، وكأن ذلك الدخول كان رحلة سياحية سلمية لم تنتج عنها تلك المآسي التي لا نزال نكتوي بآثارها إلى اليوم.

 

في المقابل فإن الذين وقفوا ضد الغزو بالغوا في التوصيف حين أطلقوا عليه جريمة العصر، ولم ينتبهوا أنهم في ذلك يرفعون قيمة الفاتورة التي كان يتعين عليهم دفعها فيما بعد، لمن جاء لنجدتهم، أو أبدى استعدادا لتوفير حماية تجنبهم تجربة مريرة أخرى.

 

 

على الجانب الآخر، فإن المصطلحات وظفت لخدمة أهداف سياسية غير مشروعة وغير قانونية. فاستخدمت إسرائيل تعبير الحزام الأمني الذي أطلقته على جنوب لبنان إبان احتلالها له منذ مطلع الثمانينات وحتى عام 2006. فكان ذلك التعبير بمثابة شرعنة للاحتلال وإعطائه مسحة نبيلة ومبررا أخلاقيا.

 

إسرائيل استخدمت أيضا تعبير القتل المستهدف لتوصيف عمليات الاغتيال لقادة المقاومة الفلسطينية في بيوتهم ومكاتبهم ومناطقهم، ووظفت هذا المصطلح الذي يجهل الكثيرون دلالاته ، ومعانيه، لتغطية جرائمها ضد أناس عزل، وفي مناطق مدنية داخل وخارج فلسطين.

 

 تستخدم إسرائيل أيضا وإلى الآن، وبرغم الاتفاقات الموقعة معها،  تعبير “الأراضي” ، كتوصيف ملتبس للضفة الغربية وقطاع غزة، لتحقيق هدفين الأول الإيحاء بأن هذه الأراضي ليست مملوكة لأحد وأنها ليست مناطق محددة جغرافيا.

 

 أما الهدف الثاني فهو تكريس تفسيرها لقرار مجلس الأمن رقم 424 الذي استطاعت إسرائيل بدهائها القانوني ودبلوماسيتها وضغوطها، إسقاط “ال” التعريف من كلمة الأراضي الواردة في نصه الإنجليزي ليصبح “الانسحاب من أراض محتلة عام 1967″.

 

مصطلحات أخرى عديدة نجحت إسرائيل في توظيفها لخدمة أهدافها أو للتأثير في الرأي العام العالمي والإقليمي، منها على سبيل المثال لا الحصر، الجدار العازل، الذي تقدمه على أنه شكل من أشكال الحماية الأمنية في حين أنه  في الجوهر،  من أعتى مظاهر العنصرية ومن أكثر الوسائل التي تستخدمها إسرائيل لتكريس احتلالها ومصادرة الأراضي من أصحابها.

 

وبالقدر الذي توسعت فيه تل أبيب باستخدام المصطلحات استخداما سياسيا، فإنها كانت أكثر من تصدى لأي مصطلح يتجاوز على ما تعتبره ضارا بمصالحها أو صورتها أو حتى لا يتفق مع تفسيرها. وبالمقابل فإننا في العالم العربي، صرنا إما بسبب سوء التقدير أو خوفا من أن نوصف بعدم الموضوعية ضحايا لمصطلحات أقرب للمغالطات، واستخدمنا دون وعي مرة بعد مرة تعابير خاطئة، وكأنها نصوص مقدسة دون أن نتوقف عند معانيها، أو نبحث في دلالاتها.

 

 

**رئيس تحرير شبكة إرم الاخبارية

 

 

 أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)