مصطفى النعمان
بعد أسابيع من اللغط والتصريحات المتناقضة من أطراف الحرب الأهلية اليمنية أفلحت الضغوط الدولية في إجبار الحكومة الشرعية الموجودة في الرياض، وكذا المتمردين الاستعداد للقاء التفاوضي الأول بينهما منذ فرار الرئيس هادي ورئيس وزرائه ثم ظهورهما في منفاهما الذي أتمنى الا يطول مع عدد كبير من مستشاريهما ووزرائهما. ويضع أغلب اليمنيين الذين لا يكترثون بمبررات صراع الطرفين الدموي والمدمر، ولكنهم يدفعون ثمنه دماً ودموعاً، أملهم بأن تتمكن الأمم المتحدة من كبح جماح المتقاتلين. ولست هنا بصدد البحث عن إلقاء الاتهامات والغوص في ما كان واجباً فعله من الذين أداروا البلاد وأوصلوها الى هذا المنزلق البشع منذ انتقال الرئاسة من صالح الى هادي، ولكني سأكرر حقيقة ثابتة لن أحيد عنها وهي ان كل القائمين على المشهد السياسي اليمني الحالي ساهموا، وإن بدرجات مختلفة، في تحويل الوطن الى كتل متصاعدة من الأحقاد والانفصام الاجتماعي وجعلوا مدن اليمن بقايا اطلال.
لم تكن مقنعة الطريقة التي أديرت بها البلاد طيلة السنوات الثلاث الماضية ولم تكن مختلفة في جوهرها عن سنوات حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وكانت خاتمة السوء الصمت على سقوط عمران ثم صنعاء وبعدها قدوم ما سمي «حكومة الكفاءات» التي لم تفعل شئياً أكثر من التركيز على الجانب الإعلامي، ولا بد ان تكون محصلة عوامل مجتمعة كهذه، كارثة سيظل اليمنيون يحصدون آثارها ويصبون سيل لعناتهم على كل الذين كانوا في السلطة منذ 38 سنة.
بعد أيام سيلتقي ممثلو طرفي الحرب الأهلية، أحدهما باسم الحكومة الشرعية والطرف الآخر باعتباره متمرداً عليها. والواقع أن التوصيف طبيعي باعتبار أن الرئيس هادي وما يمثّله حتى الآن من رمزية يصبح حكماً ممثلاً شرعياً للسلطة، وعليه فإن الحوثيين وحليفهم الرئيس السابق سيصبحون الطرف المتمرد عليها. وعلى رغم إدراكي أن الأمر ليس أكثر من تصنيفات قانونية لا تمتلك قوة الإلزام لأن الواقع له قواعده وله أيضاً ترتيباته ومترتباته.
سيجلس طرفان يمنيان يمتلئان حقداً وضغينة تجاه بعضهما البعض في غرفة تظلل جدرانها شعارات السلام والأمن الدوليين. طرف داخل البلاد مسيطر على أغلب الأرض يستخدم بقايا مقدرات الجيش ويستند الى قوة عابثة، وآخر يحتشد الإقليم والمجتمع الدولي خلفه لإعادته الى الداخل. بين الطرفين تبدو قليلة حظوظ النجاح في التوصل الى تسوية تقود الى هدنة إنسانية طويلة تعيد دورة الحياة الطبيعية الى نقطة انطلاق التقاط الانفاس والبدء في تأمين اقل القليل من أساسيات الحياة اليومية والبحث تحت الأنقاض عن جثث القتلى من الجانبين.
ان أي تفاوض سيكون مستنداً الى حقائق صنعتها الحرب المجنونة. والحقيقة الأولى الواجب التعامل معها هي ان المتمردين يحكمون الخناق الظالم على اغلب المدن الرئيسية ما يجعلهم متحكمين في الجانب الكبير من قرار وقف الحرب وهم حتماً يدركون غلبتهم الميدانية وعليه فهم مطالبون أخلاقياً ووطنياً الإعلان الصريح عن استعدادهم التفاوض على الانسحاب الآمن لقواتهم من مدن عدن وتعز والضالع بداية والبحث في تفاصيل جهة محايدة تتولى استلام ما لديهم من أسلحة ثقيلة وفي المقابل فعلى الأمم المتحدة تأمين خروجهم الى مناطق محددة.
الحقيقة الثانية: هي ان الحرب الأهلية تدور في بؤر محددة جنوب جبل سمارة الذي يحدد الخط المذهبي الفاصل بين أبناء المناطق الشافعية واشقائهم من سكان المناطق الزيدية. وهذه الحقيقة تبعث قلقاً لدى الكثيرين بترسخ حرب مذهبية كان اليمنيون يتمنون ان زمن ما بعد 26 أيلول (سبتمبر) 1962 قد طواها، ولكن حجم الدمار النفسي الذي أحدثته حرب الأشهر الأخيرة بعثها من تحت الرماد وجعلها تتصدر المشهد الدامي، وسيكون من السذاجة اغفال هذا العامل المقيت الذي يعيد الى الذاكرة احداثاً تسكن أعماق المواطنين الشوافع الذين عاصروها او تناقلوها عن اجدادهم وربما آبائهم.
الحقيقة الثالثة: ان مناطق شمال جبل سمارة التي تسكنها الكتلة القبلية المقاتلة والمسلحة تاريخياً، لا تشهد الآن حرباً وإن كانت تتعرض لضربات مركزة من قوات التحالف نالت من البنية العسكرية الأساسية التي استخدمت ضد مدن جنوب الجبل، ومن الطبيعي انها أثرت بقوة على حياة الناس اليومية، ولكن لا يمكن مقارنتها بحال من الأحوال بما حدث لمدن تعز وعدن والضالع. وليس ذلك تجاهلاً او تغاضياً عن معاناة صنعاء وصعدة بالذات.
الحقيقة الرابعة: الحديث عن يمن موحد يجب تجاوزه والانتقال بالتفكير العقيم الى مرحلة أكثر نضجاً، إذ إنني لا أتصور كيف تعود الأمور الى ما كانت عليه قبل حرب 1994 التي كانت شرارة الانفصال النفسي الحقيقي بين أبناء جنوب اليمن وشماله، وأُضيف الى ان أبناء تعز ارتفع سقف مطالباتهم بإعادة التفكير في طبيعة العلاقات بين شمال الجبل وجنوبه، وتزايدت أصوات ناقمة وحانقة على ما طاول مدينتهم من دمار كارثي وخسائر بشرية مذهلة، ولا يمكنني ان أبرّئ كل من ساهم في الدفع بتعز الى هذا المآل المأسوي، سواء الذين تلحفوا برداء الدفاع عنها او الذين قدموا من خارجها للتحكم في مصيرها.
ان مدينتي تعز التي نالها السوء تحت شعار محاربة «التكفيريين» و «الدواعش» تدفع ثمناً باهظاً ولن يقبل أبناؤها بأقل من تخفيف يد «صنعاء السياسية والقبلية» الثقيلة عن حاضر حياتها ومستقبله، وهذا في المقابل يوجب على الفريق المقاتل من أبنائها ادراك مسؤوليتهم بنفس القدر، للعمل على تجنيبها المزيد من إراقة الدماء في حروب الوكالة عن تيارات سياسية وتحت أي مبرر.
في جنيف سيجري «تفاوض» يبحث في عموميات تقود الى الدخول في تفاصيل يجب ان يكون مبتدأها وقف الحرب وإعادة ترتيب الخطوط الجغرافية، لأن من غير المعقول ولا المقبول استبعاد الكراهية التي كرّستها الحرب، ثم سيكون ممكناً بعد فترة هدوء تتوقف خلالها نهائياً كل الأعمال العسكرية تحت رقابة أممية، تشكيل إدارة انتقالية بعيداً من سفسطة الساسة والمستشارين والنظر الى الواقع بجدية بعيداً من هوس الأضواء، كما يجب التوقف عن هذا السيل من القرارات غير المجدية والتعيينات الصورية لأنها تعقّد الأمور.
اليمن ينزلق سريعاً نحو نموذج ليبي مفزع ستكون كل منطقة فيه خاضعة لفصيل لا يرتبط بسلطة، وسيتكرّس نفوذ داخلها لحملة السلاح الذين لا يؤمنون بالدولة أياً كان شكلها، ولن يكون منتظراً وصول العون الخارجي سريعاً إلى بلد تتحكّم فيه صراعات وأهواء ساسة باعوه الأوهام واستغلوه لمصالح ذاتية، وهم يصرخون حباً وولاءً له ويطلقون المبادرات البلهاء، بينما البسطاء الأبرياء يرزحون تحت النيران وقسوة العيش. ما زلت مؤمناً ان الملك سلمان بن عبدالعزيز بما عرفتُهُ من والدي عنه، يمثّل الحكمة وقوة الإرادة مقرونتين بالحزم، وهو الأقدر على جمع شمل اليمنيين على نية صادقة تعيد الصفاء الى النفوس وتلملم الجراح وتتسامى فوق الأخطاء اليمنية وحتى الخطايا.