الأرشيف

إيران وغُصة التاريخ والجغرافيا

الأرشيف
الأحد ، ٠٧ يونيو ٢٠١٥ الساعة ١١:٥٢ صباحاً

حسناء القنيعير


يرى كثير من المراقبين أن أحلام إيران التوسعية في المنطقة العربية، بدأت منذ حرب أميركا على أفغانستان والعراق، وكانت العراق نقطة الانطلاق؛ حيث تركزت الإستراتيجية الإيرانية على ألا تكون العراق قوة تهدد إيران مرة أخرى، وجعلت لشيعة العراق ممثلا بحزب الدعوة الهيمنة على البلاد سياسيًا، ولم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن ذلك، لكنها عقدت الصفقات العلنية والسرية مع طهران في سبيل تحقيق مصالحها في المنطقة، من خلال إدارة الملف النووي الإيراني.

وقد اتضحت الطموحات الإيرانية في إعادة إنتاج الإمبراطورية الفارسية على ضوء ممارسات طهران في السنوات الأخيرة، من خلال مشروع سياسي للسيطرة على الدول العربية باسم الإيديولوجية الثورية الخمينية، والتفسير الأسطوري للمذهب الفارسي تحت عناوين قيادة المسلمين ووحدتهم، واللعب على كل الأوتار؛ لتكريس الغلبة وانتزاع دور الشرطي الإقليمي في الخليج العربي والشرق الأوسط. فلقد تبنى الملالي منذ انقلابهم على الشاه، مبدأ تصدير ثورتهم المسماة زورًا إسلامية، إلى الوطن العربي والعالم الإسلامي، وإذا كان عراق صدام مثّل سداً منيعاً ضد التوسع الصفوي في منطقة الخليج العربي، فإن نظام الملالي لم يتخلّ عن تواصله بالأقليات في الخليج والجزيرة العربية عموماً، كما سعى جاهداً إلى تصدير الفكر الشيعي الصفوي إلى دول أخرى، وتشكيل ميليشيات إرهابية، كميليشيا حزب الله عام 1990م، وهو أقدم تنظيم إرهابي يعمل لحساب الفرس في لبنان، ولعل الغزو الثقافي الفارسي للبنان يعد الأكثر بروزًا في المنطقة، فقد عملوا على ترسيخ ثقافة الثورة برفع شعاراتها، ونشر صور رموزها، كالخميني والصدر والسيستاني ورفسنجاني وحسن نصر اللات ومقتدى الصدر وغيرهم، وعلم إيران إلى جانب علم حزب اللات، فما أن تغادر مبنى مطار بيروت، حتى تقابلك كل تلك الرموز على جنبات الطريق، ناهيك عن لبس النسوة، بما يخالف ما اعتاد عليه المجتمع اللبناني، إضافة إلى افتتاح العديد من المحلات التجارية والمكتبات والتسجيلات التي تروج لفكر الملالي، وتوزع أشرطة وكتب وكتيبات ذات مضامين شيعية صفوية، وتمرير عقائدهم كسب الصحابة، والاحتفال بيوم الغدير، بما يشبه التطبيع الثقافي الكامل مع دولة الفرس.

تنطلق سياسة إيران التوسعية من تصريحات المسؤولين الإيرانيين الذين يرون أن الفضاء الحقيقي لإيران، يبدأ من العراق الذي ينبغي أن يكون واجهة إيران للدفاع عن نفسها، سعياً للهيمنة على المنطقة، وتغييرها جغرافيا وديموغرافيا
وفي مسعاها إلى التمدد جغرافياً في المنطقة العربية، بغية تحقيق أطماعها بإمبراطورية فارسية طالما تطلعت إليها، فقد أمسكت بزمام عدد من العواصم العربية، هي دمشق وبيروت وبغداد، وصنعاء التي حالت عاصفة الحزم دون إحكام السيطرة عليها.

وقد سلكت لذلك مسالك أهمها؛ ارتفاع منسوب التحريض والعنف الطائفي، وإثارة النعرات في أرجاء المنطقة كلها، عبر عملائها من العرب الذين خانوا أوطانهم، وعبر إعلامها الذي يديره أولئك العملاء، كقناة العالم والمنار والميادين في لبنان، وما يماثلها في الرسالة والهدف في العراق، ولا يخفى على أحد أننا اليوم إزاء دولة متغولة، وإخطبوط له ألف ذراع وذراع، يحرك القلاقل هنا، ويزرع الفتن هناك، ويعين المحتل هنا، ويحتل بنفسه هناك، ويعذِّب وينكِّل ويغزو، ولا يرى لأحد حقوقًا، ويمنح نفسه كل الحقوق.

تنطلق سياسة إيران التوسعية من تصريحات المسؤولين الإيرانيين الذين يرون أن الفضاء الحقيقي لإيران، يبدأ من العراق الذي ينبغي أن يكون واجهة إيران للدفاع عن نفسها، سعياً للهيمنة على المنطقة، وتغييرها جغرافيا وديموغرافيا، فعلاوة على احتلالهم الجزر الإماراتية فلديهم خطط لفرض سيطرتهم على جميع الجزر في مياه الخليج العربي؛ لإقامة قواعد عسكرية عليها لتخزين ترسانة من الأسلحة والمعدات العسكرية، ونصب صواريخ أرض – أرض، وأرض – جو سعياً للهيمنة على المنطقة، ونقل القرار السياسي والاقتصادي والنفطي من دول الخليج العربية إلى دولتهم الفارسية، كما أنهم ما انفكوا يزعمون أن البحرين محافظة إيرانية، ففي العام 2012، جدد النائب في مجلس الشورى الإيراني حسين علي شهرياري التأكيد في جلسة برلمانية على أن "البحرين كانت المحافظة الرابعة عشرة في إيران حتى عام 1971، لكن بسبب خيانة الشاه انفصلت البحرين عن ايران". لهذا فإن جميع التصريحات الإيرانية المستفزة ضد البحرين على مدى سنوات، تنطلق من القناعة بأحقية ايران فيها، وهذا ما يفسر حماسهم للدفاع الأعمى عن المتمردين على الحكومة البحرينية.

وعندما نجح مجلس التعاون الخليجي في التصدي للمخطط الفارسي الخبيث، والمؤامرة الدنيئة لابتلاع مملكة البحرين، قال النائب العراقي باقر جبر صولاغ: "إن الظلم الذي جرى ويجري على الأمة العربية يبدأ من السعودية، فقد دخلوا البحرين وعاثوا في الأرض فسادا" !، أما أحد المحامين الكويتيين المحسوب على إيران، وشارك في شبابه في الهجوم على موكب الشيخ جابر بتحريض من إيران، فقد اتهم القوات السعودية بالعمل على تغيير ديموغرافي في البحرين! لكن لا غرابة فكلاهما يشرب من كأس الخيانة نفسها، وينطلق من منطق العملاء الذين لا يبالون بالأكاذيب التي يرسلونها وفاء لأسيادهم في طهران.

وفي إطار أوسع يوظف الملالي النزاع السني – الشيعي، وحروب العرب الداخلية وانقساماتهم، لنشر مزيد من القطيعة بين الدول العربية، لاسيما دول الجوار، فقد كشفت معلومات خاصة لصحيفة السياسة الكويتية عن "أن النظام الإيراني يخطط لتحريك الميليشيات العراقية الموالية له باتجاه الحدود العراقية مع المملكة العربية السعودية ودولة الكويت، رداً على عاصفة الحزم ضد ميليشيات الحوثيين، وقد أجرى قاسم سليماني مناقشات في هذا الشأن مع قادة ميليشيات عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي، ومنظمة بدر بزعامة هادي العامري، وحزب الله العراقي بزعامة أبو مهدي المهندس، وجيش المختار بزعامة واثق البطاط، ولواء (أبو الفضل العباس) الذي ما زال يقاتل في سورية إلى جانب قوات بشار الأسد، وأن النظام الإيراني مستعد للإطاحة برئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، إذا عارض تحرك الميليشيات جنوبا، لأن كل المؤشرات تؤكد أن العبادي لن يتورط أبداً في تبني سياسة معادية للدول العربية المجاورة".

وتسهم إيران في الحروب المندلعة في المنطقة، وذلك بضخ الأسلحة والأموال، وإرسال الجنود والقادة العسكريين، لإطالة أمد الحرب، كما في سورية التي تشهد منذ 15 مارس 2011 نزاعًا تحول من احتجاجات مناهضة لنظام بشار إلى ثورة شعبية، سرعان ما أصبحت حربًا أهلية أسفرت عن مقتل أكثر من 220 ألف شخص، عدا آلاف الجرحى والمفقودين والمعتقلين والنازحين! ولولا دعم إيران لبشار لما استمر في موقعه يعيث قتلاً ودمارًا في سورية، فإيران تلعب ورقة الفوضى الإقليمية لمنع سقوط نظام الأسد، وكانت منعت على لسان نائب وزير خارجيتها، إنشاء منطقة حظر جوي فوق سورية، محذرة بأن ذلك لا يساعد على الأمن والاستقرار الإقليميين!

ولا غرابة في ذلك فالنظام السوري قلب إيران النابض في المنطقة العربية، فهو حلقة الوصل التي تربطها بحزب الله في لبنان، ومع فقدان هذه الحلقة الحساسة، فإن مستقبل طهران في المنطقة العربية سيكون على المحك.

أما العراق، فلا يخفى أن النظام الفاشي الصفوي الحاكم في طهران كان يخطط لاحتلاله منذ الانسحاب العسكري الأميركي في نهاية عام 2011، وقد أدى هذا الدور الخبيث إلى إشعال الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة، وكانت تلك الفتنة السبب الأول في تشكل منظمة داعش الإرهابية التي لم تحارب إيران مطلقا، لأنها في حقيقتها منظمة صفوية إيرانية في العقيدة والسلوك، هدفها كأهداف إيران التوسعية، وأجندتها تتوافق مع الأجندة الإيرانية الصفوية، والفرق أنهم أتوا بإرهابيين سنة ليخدموا أهدافهم الخبيثة، وكما وفرت إيران مواقع للقاعدة في أراضيها، فإنها تفعل الشيء نفسه لداعش والنصرة، فأولئك ليسوا إلاّ أدوات إيرانية هدفها التوسع في البلاد العربية، وزعزعة أمنها.

لقد أصبحت إيران أكثر شراسة، فهي لأول مرة تتجرأ بإرسال قوات من الحرس الثوري لتقاتل علانية على أراض وراء حدودها، آلاف منهم يقاتلون في سورية، ويديرون الحرب مع ميليشيات تابعة لهم من حزب الله اللبناني وعصائب الحق العراقية، ولم تتوان عن إرسال مقاتلين وأسلحة وعتاد إلى اليمن لنصرة المتمردين الحوثيين.

وهنا يتساءل العقلاء: أين تبدو السياسات الإيرانية المعتدلة التي يزعمون؟ الواقع أنه لا أثر لها! ويتحدث بعض الخبراء الإيرانيين عن تقاسم الأدوار بين روحاني والحرس الثوري، بمقتضاها يتولى روحاني الملف النووي، والوضع الاقتصادي الداخلي؛ بينما يتولى الحرس الثوري السياسة والأمن االداخلي، وعلاقات إيران مع دول الجوار، أي تصدير العنف والإرهاب وإشعال الحروب.

وإذا كان ذلك صحيحاً فمعناه أنّ السياسات الإيرانية التوسعية والتخريبية تجاه العرب لن تتغير.

ومما يؤكد ما سبق، أنه قبل روحاني الذي استهل رئاسته بوعود براقة وابتسامات واضحة، جاء رئيسان لديهما فكر انفتاحي، هما هاشمي رفسنجاني الذي تسلم الرئاسة في عام 1989 وكان رئيسًا قويًا طوال سنوات حكمه الثماني، مدّ يده لدول الخليج العربي، وأعلن نية بلاده التصالحية والانفتاحية - فحسبنا أنهم ارعووا وعادوا إلى رشدهم - لكن ما أن حلّ العام 1996 حتى دبرت إيران تفجيراتٍ في بلادنا، أبرزها في مدينة الخبر التي قتل فيها 19 أميركيا وأصيب ما مجموعه 372 عسكريًا أميركيا في التفجير، كما ضبطت خلايا في البحرين. وفي عهده احتلت إيران ما تبقى من جزيرة "أبو موسى الإماراتية"! ومثله محمد خاتمي الذي وصل للحكم عام 1997، واستبشر به العرب، لكن في مارس من العام 1999 صعّدت إيران لهجتها رافضة دعوة مجلس التعاون الخليجى إلى وقف المناورات العسكرية الإيرانية فى الجزر الإماراتية الثلاث، مجددة تمسكها بالسيادة عليها واعتبارها جزءا لا يتجزأ من الأراضى الإيرانية، بما لا يتلاقى مع الدعوة الإماراتية لإيران إلى اتخاذ خطوات ملموسة من أجل بناء الثقة، وتحسين العلاقات حتى تكون التصريحات مقترنة بالأفعال! لذا فلا عجب أن يكون من يدعي الاعتدال متمسكا بالأجندة نفسها، فقضية الفرس مع الأمة العربية قضية عقدية، وحقد يتنامى على مرّ العصور..

فما أحرانا أن نستشعر الخطر المحدق بنا من بني صفيون، كما استشعر نصر بن سيار- والي خرسان في أواخر العهد الأموي- الخطر الذي أحاق بالأمة، فقال قصيدة يحذر فيها بني أمية من مغبة الحرب التي رأى نُذُرَهَا:

أَرى خَلَلَ الرَّمادِ وَميِضَ نَار ٍ

ويُوشكُ أن يَكُونَ لَهَا ضِرَامُ

فإنّ النارَ بالعودين تُذْكى

وإنّ الحربَ مبدؤها كلامُ

فإنْ لم يطفها عقلاءُ قوم

يكونُ وقودَها جثثٌ وهامُ

فقلت من التعجب ليتَ شِعري

أأيقاظٌ أمية أم نيامُ؟

 

 أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)