الأرشيف

ما الذي حدث للجيش اليمني؟

الأرشيف
السبت ، ١٣ ديسمبر ٢٠١٤ الساعة ١٠:١٥ صباحاً

مروان الغفوري


يعتقد رئيس جهاز الأمن القومي علي الأحمدي، بحسب تصريحاته للسياسة الكويتية، إن الحوثيين اجتاحوا صنعاء بحوالي 20 ألف مسلحاً. لم يجد هذا الجيش غير النظامي في طريقه من معاوقة تذكر باستثناء ما بذله 500 فرداً من الجيش كانوا منتشرين داخل الفرقة الأولى مدرّع وبالقرب من مبنى التلفزيون، بحسب الرواية الخاصة بوزارة الداخلية.

 

صنعاء مدينة محاطة بعشرات المعسكرات. كما يتواجد في صنعاء المئات من كبار الضباط الذين يعملون في مهام لا علاقة لها بالعسكرية. كان صالح حريصاً على أن يؤسس لجيش خاص تنتمي طبقته العليا إلى شمال الشمال اليمني مع بعض التمويه الذي يؤكد القاعدة. وقبل عشرة أعوام قال لقناة إم بي سي إنه لا يثق باليمنيين، بل في أولاده، وأنه لذلك جعلهم قادة للجيش والأمن. أولاده، أيضاً، صاغوا القوات المسلّحة من جغرافيا المذهب الخاصة، المذهب والثقافة والبيوت التاريخية المتزاوجة والمتقاربة، أي من جبال الشمال. عندما يشار إلى المذهب في الأدبيات السياسية اليمنية فالوصف ينصرف إلى الزيدية السياسية قبل الدينية.

 

وعندما توجّهت بالسؤال إلى أحد أعضاء لجنة الدفاع والأمن في الحوار الوطني، كان ذلك في منزل السيدة توكل كرمان في رمضان المنصرم، عن ما هو الجيش اليمني على وجه التحديد فقد أجاب الضابط الرفيع بكلام أثار فزعي. قال إنه التقى الرئيس هادي أكثر من مرّة محاولاً تنبيهه إلى ضرورة اتخاذ إجراءات طارئة لتصحيح طبيعة الجيش. إذ من إجمالي حوالي نصف مليون فرداً في الجيش اليمني ينتمي حوالي 115 ألفاً إلى محافظة واحدة، هي ذمار. بينما لم تساهم محافظة حضرموت منذ العام 1994 سوى بحوالي 54 ضابطاً. أضاف الضابط شرحه الخاص للمعضلة "إذا أردت أن تحرّك كتيبة لدواع عسكرية فستجد صعوبة كبيرة. الحسابات في هذه الحالة غير وطنية بسبب التشكيل غير الوطني للجيش". كان الضابط ينتمي، في الأساس، إلى جمهورية شمال الشمال، وكان مهنيّاً واحترافيّاً. وكالعادة: استثناء يؤكد القاعدة.

 

كانت الكتائب المسلحة للحوثيين تعبُر القرى والمحافظات في الطريق إلى صنعاء. وكانت تلك المناطق قيد التسليم تنتمي كلها إلى المذهب الزيدي بشقيه اللاهوتي والدنيوي، أي السياسي والديني. وكان الحال كذلك مع قادة الجيش. ذلك المذهب الذي صاغه الإمام الهادي في القرن الرابع الهجري والذي يقول لأتباعه إن الرئاسة، الإمامة، شأن ديني توقيفي، وأنه حصري في سلالة النبي محمد. على أن تتحقق في الإمام رجاحة العقل والاجتهاد وصحة الجسد.

 

لم تجد جحافل الحوثي في طريقها معاوقات حقيقية فقد كانت تتحرك ضمن أرض المذهب التاريخية، وعاصمتها صنعاء، طبقاً لكلمات الناطق الرسمي للحوثيين محمد عبد السلام. لم تشعر المحافظات التي تحيط صنعاء، ولا غالبية السكّان، بغرابة في منطق الحوثي فقد كان نابعاً من صميم عقائدها. وكان، بطريقة أو أخرى، يجسد الطبيعة المادية لعقائدهم. ولهذه الحقيقة التاريخية استثناءات تؤكدها.

 

تاريخيّاً كان المذهب الزيدي، وهو مذهب فلسفي ومحارب في آن واحد، متصالحاً مع المذاهب الأخرى، في المقدمة منها الشافعية. يُعزى الوئام الذي ساد في فترات متفرقة إلى المذهب الشافعي، فهو لم يكن حاكماً. وكان تسامح المذهب الزيدي مع الشافعية من واقع كونه منتصراً يصنع الامتثال الإجباري لدى الآخرين. عندما جرّب ألا يكون حاكماً لفترة قصيرة "استمرت أقل من نصف قرن" امتلأ بالغليان، ثم حمل السلاح وكنس كل شيء في طريقه: اليهود، السلفيين، الشوافع، والمغني. 

 

الآن وقد انتصر مرّة أخرى وعاد حاكماً سيفعّل شريط التسامح مع الآخرين. وأولئك عليهم أن يمتثلوا لفلسفته ورؤيته للعالم، أي لإيديولوجيته، لكي يحصلوا على تسامحه. وأن لا يستفزوه. فقد وضع الإمام الهادي شرطاً جوهرياً للحاكم الرسول: أن يكون مجتهداً، ومجاهداً، يحمل القلم ويده على السيف. في بحثها الهام حول "السياسة والقانون في جبال اليمن" قالت شيلاغ واير إن المذهب منح الإمام فضلاً عن سائر الزيدية، وهؤلاء منحهم الفضل عن سائر اليمنيين. وإن حرب الإمام والقبائل، داخل نفس المذهب، كانت تحدث عندما تقرر القبائل حجب الزكاة لأسباب سياسية أو إدارية. وبدوره كان الإمام يعطي أوامره للجهاد ضدهم بوصفهم خارجين عن الدين.

 

تعتقد أيضاً أن التصور الإمامي للدين يقوم على أساس جباية المال من الآخرين، لذا فإن الإمامة لا تجتهد لإحداث أي تنمية حقيقية. تفضّل المال السالب، المال السهل من مدافن الذرة ومخازن البن الخاصة باليمنيين. كان على اليمنيين أن يفرغوا مدافنهم ليملأوا مدافن الإمام، لكيلا يواجهوا ما هو أسوأ من الجوع: جهاد الأئمة.

 

بعد حرب صعدة الخامسة، تحديداً يناير 2007، سأل مسؤول حكومي رفيع السيد عبد القادر باجمال، رئيس الوزراء آنئذ، عن سر هزائم الدولة أمام عصابات. كانت الحرب الخامسة قد انتهت، أما صالح فكان يحضّر للحرب السادسة. كان الرجلان خارجين من اجتماع دوري لمجلس الوزراء تلا فيه وزير الداخلية العليمي ملخصاً للعمليات العسكرية في صعدة. بحسب المسؤول الحكومي، كما تحدث إلي، فقد فاجأه رئيس الوزراء بجملة "هذه حرب بين دولة أحمد علي صالح ودولة علي محسن الأحمر". شرح باجمال ملاحظاته حول الحرب وقال إن صالح لن يسمح للقائد العسكري علي محسن الأحمر بتحقيق أي نصر. ولو اضطرّ صالح لفتح الطريق أمام الحوثيين إلى صنعاء لينال من الجنرال محسن، قال باجمّال، فلن يتردّد. 

 

السيناريو الذي تخيله رئيس الوزراء باجمال تحقق بعد سبع سنوات.

لكي تكتمل الصورة حدث فصل هزلي مخيف في التاريخ المعاصر. فقد راقب الرئيس هادي العلاقة المتنامية لصالح بالحوثيين. وبدلاً عن أن يمضي في عملية هيكلة القوات المسلّحة فقد نحا في طريق آخر: السباق مع صالح على قلب السيد الحوثي. ساعة دخول الحوثيين إلى صنعاء كان صالح يغطي الحوثيين داخلياً عبر شبكة الاتصالات الخاصة بالأمن القومي، وحلفائه في الجيش وقادة حزبه ضمن الهيراركيه القبلية. وكان هادي، طبقاً لأحد مستشاريه، يفعل الشيء نفسه بطريقة مختلفة. فقد كان يغطي الحوثيين عبر تضليل الخارج بمعلومات تقول إن ما يجري لم يكن سوى مناوشات بسيطة بين مؤيدي الجنرال الأحمر ومؤيدي الحوثي، وأنها عمليات محدودة تجري على تخوم صنعاء وأن الأهم من كل ذلك أن ثمة اتفاقاً جديداً للسلم والشراكة سيفضي إلى السلام الدائم.

 

في السباق إلى قلب الحوثي سقط القائد الأعلى للقوات المسلحة الرئيس هادي، وأسقط صنعاء.

 

عشية دخول صنعاء كان الجيش اليمني قد أصبح خارج الفاعلية، كلّياً. فالمنطقة العسكرية الخامسة، على سبيل المثال، في تهامة كانت قد سلمت منذ وقت بعيد لأحد رجال هادي، لبوزة. كان لبوزة، ولا يزال، أكثر القاعدة العسكريين إثارة للسخط داخل القوات المسلّحة بسبب قضايا فساد واستحواذ واقتطاعات مالية لا حدّ لها. وما إن سيطر الحوثيون على عمران حتى جلب لبوزة قيادات حوثية إلى مقر المنطقة الخامسة، مهددّاً الجنود الثائرين ضدّه بتهمة "التكفيريين". وعندما وقعت صنعاء تحت الحصار حضر لبوزة بصحبة شخصيات حوثية عالية إلى مقر المنطقة وطلب من الجنود المصطفّين أداء الصرخة. كان رجل هادي في تهامة أول قائد عسكري يمني يلقن الجيش الصرخة في وضح النهار. يعلم الحوثيون سجل الفساد الضخم الخاص برجل هادي في تهامة، لذلك تركوه. فليس للحوثي، حالياً، من حليف واحد ذي سجل مشرّف.

 

كما يعلمون حجم الخزانة العائلية لهادي ونجله وحلفائه وفي المقدمة منهم وزير الدفاع السابق. نشأ منذ البداية حلف غير مكتوب بين الفاسدين ذوي البزّات الرسمية والغزاة الذين يبحثون عن غطاء رسمي لمعاركهم.

 

في الأيام الفائتة ظهر إلى العلن تنظيم بالوني اسمه "الهيئة الوطنية للدفاع عن الجيش". عقب انتهاء حفلة الإعلان نادى إعلام صالح شرفاء الجيش للانضمام إلى "الهيئة". بالموازاة انتشرت صورة مؤثرة للعقيد أحمد الحاوري، أحد رجال لبوزة في الحديدة سابقاً وأحد رجال أحمد علي وعبد الملك حالياً، وهو يبكي. نشأت الهيئة، بحسب قائد عسكري كبير، كمحاولة لاستعادة الجيش المنهار ليصبح من جديد جيشاً على شكل مرتزقة تتبع الحليفين صالح وعبد الملك.

 

عاش هادي تحت ظل صالح حوالي 17 عاماً، وكان يعاني. وعندما أصبح رئيساً ذهب يواجه صالح بعقلية وروح نائب رئيس، كما تردد السفيرة البريطانية في صنعاء. استبق هادي مع صالح على رجالات صالح فأعادهم إلى الواجهة حد تعيين أحد أكثر الشخصيات العسكرية إخلاصاً للأخير في منصب قائد المنطقة العسكرية السادسة، تلك المناط بها حماية العاصمة. مع أول اقتحام ناجح قامت به ميليشيات الحوثي للعاصمة صنعاء كان قائد المنطقة السادسة، اللواء الحاوري، قد سحب كل النقاط العسكرية وفتح عشرات الطرق أمام الميليشيا. لقد تبخّرت المنطقة العسكرية في وضح النهار ولم يبق منها سوى أسوار شاهقة وموصدة من الداخل على العربات والأفراد.

 

بعد سقوط صنعاء بثلاثة أيام خرج هادي والحوثي يلقيان خطابين للشعب اليمني. حتى مواقع التواصل الاجتماعي لم تتناول خطاب هادي بخلاف الآخر. منذ الواحد والعشرين من سبتمبر الفائت، عشية سقوط الجمهورية اليمنية، لم يعد اليمنيون يواجهون ظهور هادي سوى بالاحتقار العميق. أما الحوثيون فانطلقوا إلى المحافظات على طريقة رسل الإمبراطور الفارسي داريوس في العام 491 ق.م. كانت رسل داريوس تجوب المدن اليونانية تطلب تسليم "الأرض والماء". الشيء نفسه، والرسالة نفسها، تجري بها الميليشيات في عواصم المحافظات والنجوع تطلب تسليم الأرض والماء، وسرعان ما تحصل على كل شيء. أما هادي فقد هز رأسه في لقائه الأخير بمجلس الوزراء وقال مبتسماً "يا جبل ما يهزك ريح". قال لي أحد الوزراء الحاضرين إنه شعر بصاعق يضرب كل نقطة في جسده، وبدا له الرجل يغط في نوم عميق.

 

لم يتخذ الرئيس هادي أي إجراء يذكر لأجل تدارك انهيار باقي الجمهورية. سلمت وحدات الجيش في بقية المدن، كما في ذمار وإب وريمة والحديدة وحجة، كل ترسانتها للحوثيين، ووقعت معهم اتفاقات خاصة.

 

بقيت مأرب، المحافظة الثرية والفقيرة، تقاوم. ضرب الحوثيون حصاراً خانقاً ضد المحافظة مسنودين بالمنطقة العسكرية الثالثة. نقل مفاوض مأرب إلى هادي عبارات عنصرية من قبل قائد المنطقة الثالثة، وهو أحد رجالات هادي، عن مأرب، فهزّ هادي رأسه، ولم يسمع شيئاً.

 

استطاع أعيان مأرب أن يتوصلوا إلى اتفاق هش مع الحوثيين ريثما يتمكنوا من الالتقاء بالرئيس هادي. في الأيام الأخيرة، قبل حوالي أسبوع من الآن، التقى أعيان مأرب الرئيس هادي فقال لهم إن الأمور حسمت لصالح الحوثي في كل اليمن، وإن الطريق الوحيد لتجنيب مأرب الخراب هو الذهاب إلى الحوثي والحديث إليه. "إذا عقد معكم اتفاقاً فذلك أمر جيد، وإن لم يفعل فنصيحتي لكم أن تسلموا وتفعلوا كالآخرين" قال لهم هادي. ولكي يبدو محايداً أمامهم، وبريئاً، قال هادي لوفد مأرب إن الحوثيين يعقدون اتفاقات ثنائية مع الجيش تمكنهم من احتلال المدن كما حدث مع صنعاء. يقول أحد أعضاء الوفد إن هادي بدا مرتاح الضمير وهو يتحدث على تلك الطريقة. كانت صحيفة المصدر قد أجرت لقاء مع قائد عسكري كبير قال للصحيفة إن قادة الألوية العسكرية المحيطة بصنعاء وقعوا بالفعل وثيقة عدم اعتداء مع الحوثيين الذين كانوا في طريقهم إلى احتلال العاصمة واستبدال النظام الجمهوري الديموقراطي بنظام إمامي ديني. بالنسبة للمفكر اليمني الشاب نبيل البكيري فإن عملية التسليم تلك حدثت بسبب الولاء العميق الذي يكنّه قادة الجيش لثقافتهم، تلك التي تتسق كلّياً مع المنطق الآلي العسكري والأخلاقي للحملة الحوثية الأولى على صنعاء.

 

قبل سبعة أعوام وصف الكاتب المعروف فكري قاسم الطريقة التي يدير بها صالح الدولة بأنها تشبه رجلاً يضع قدمه على لغم في وسط الطريق. وكلما حاول المارة الاعتراض على الرجل يبادرهم بالقول "سأرفع رجلي" فيضطرون للخضوع لشروطه. عندما رفع صالح قدمه انفجر لغمه الكبير وسقطت صنعاء. انتقم من ثورة فبراير ولم يكسب شيئاً سوى التداوي بمشهد صنعاء المحترقة. منحته الثورة حصانة أكثر استقراراً من الأمن الذي منحه إياه الحوثيون. غير أنه ترك كل ذلك، واستسلم لعقده النفسية الضارة.

 

لقد تلاشى الجيش اليمني خلال ساعات قليلة وكان تعداده يبلغ حوالي نصف مليون فرداً. قال الأحمدي، رئيس جهاز الأمن القومي، إن سيارتي مسلحين حوثيين تقفان أمام بوابة معسكر القوات الخاصة ذي الثلاثة آلاف فرداً، وتتحكمان بكل شيء. 

 

غير أن الجزء الأكثر سوداوية في قصة سقوط الجمهورية يكمن في حقيقة إن صنعاء كانت هي المكان الوحيد الذي ينمو في اليمن. وهناك وضعت الأحزاب السياسية، التنظيمات، التجار، النخب، وحتى القيادات الجنوبية بيضها كلّه. ما إن وقعت سلة البيض الكبرى في قبضة الحوثي حتى أصبح كل شيء في حوزته. وسيمضي زمن طويل، فيما يبدو، حتى تصبح هذه اللحظة السوداء جزءً من الماضي أو الذاكرة.

 

 أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)