يبدي المواطن الخمسيني بشير واصل، استغرابه من تصاعد فرض الضرائب واستمرار موجات الغلاء في اليمن بصورة محيرة ليس لها تفسير، بالرغم مما يلاحظ مؤخراً من تراجع الأزمات التي يجري التحجج بها لارتفاع أسعار المواد والسلع الغذائية والاستهلاكية.
يضيف واصل لـ"العربي الجديد"، أن البترول متوفر بعد أن أصبحت السفن التي تحمله تتدفق بشكل متواصل بدون أي إجراءات وقيود وعراقيل إلى ميناء الحديدة، بينما سعر صرف العملة شبه متوقف عند مستوى ثابت منذ سنوات في صنعاء، بل وشهد تحسناً ملحوظاً منذ بداية العام الحالي 2022، في حين سعر كيس الدقيق يزيد شهرياً بمعدل من 1000 إلى 2000 ريال (الدولار = نحو 1130 ريال)، وفي بعض الفترات بمبلغ يزيد عن 3 آلاف ريال. يتفق معه محسن العولقي، من سكان مدينة شبوة جنوب اليمن، ورياض عبدربه من سكان مأرب شرق البلاد، في كون الغلاء وارتفاع أسعار الغذاء في طليعة الأزمات الكارثية التي تعصف بهم وبسكان هذه المناطق، الواقعة افتراضياً في نطاق إدارة الحكومة اليمنية، بحسب حديثه لـ"العربي الجديد".
في البحث عن الأسباب التي تضاعف معاناة اليمنيين في ظل تراجع حدة بعض الأزمات الاقتصادية كالوقود والعملة، مع بقاء وضعيتها المضطربة، ترصد "العربي الجديد" تبعات أخرى كارثية تكشف عن أهم الأسباب التي تعبث باليمنيين وتفاقم معاناتهم وتردي معيشتهم إلى مستويات لم يعد كثير منهم قادراً على تحملها.
الاقتصاد اليمني يواجه ضغوط الإنفاق العشوائي
يتمثل ذلك في المنظومة الجبائية المتضخمة والتي تُحصل بطرق غير مشروعة، يعتبرها اقتصاديون وقانونيون تعدياً واضحاً على الأنظمة والتشريعات اليمنية التي عطلتها أطراف الحرب وطوعتها لتحقيق مصالحها الذاتية في التكسب غير المشروع، وتكوين اقتصادات خاصة بها، وموارد ذاتية، كان لها تأثير في إطالة أمد الحرب، وتوسيع قنوات النهب والسلب والإثراء الفاحش غير المشروع، على حساب إفقار وتجويع اليمنيين. وتكشف "العربي الجديد"، من خلال ما قامت به من عملية رصد واسعة للأسواق اليمنية، واطلاعها على وثائق وسندات تجارية وتقارير صادرة عن مؤسسات القطاع الخاص وقطاعات عاملة في الشحن والنقل التجاري الداخلي، عن تسبب الجبايات والإتاوات المزدوجة بنسبة تتجاوز 45% في التكلفة النهائية للمنتجات والسلع والمواد الغذائية والاستهلاكية المتداولة في مختلف الأسواق اليمنية.
الباحث الاقتصادي قايد الحنكي، يؤكد في حديث لـ"العربي الجديد"، أن اليمنيين يرزحون تحت سطوة أبشع استغلال ونهب يطالهم منذ ثماني سنوات، وذلك بالنظر إلى ما اتبعته سلطات الأمر الواقع من سياسات منظمة، هدفها إخضاع الناس ومختلف الكيانات الاجتماعية والتجارية والاقتصادية التي أدت إلى إفقارهم وإنهاكهم وملاحقة متطلبات معيشتهم اليومية، وذلك باستخدام أدوات عدة لتكريس هذا النفوذ، كالاستيلاء على المال العام، وفرض الجبايات والإتاوات التي تصل إلى مستوى الخدمات العامة التي كانت تقدمها الدولة بتكاليف رمزية كالكهرباء والمياه، إضافة إلى غاز الطهو وشاحنات ومركبات النقل الداخلي التي تحمل المسافرين بين المدن اليمنية. ويرجع تجار أسباب بقاء أسعار السلع والخدمات بنسق مرتفع في جميع المناطق اليمنية إلى الإتاوات التي يصفونها بغير القانونية التي يجري دفعها لسلطات متعددة، من جمارك وضرائب ورسوم تحسين ونظافة، وجبايات معاملات، وتخليص وتسهيل ومرور وزكاة، وغيرها من المبالغ التي تُحصّل تحت هذه المسميات.
أقساط التأمين البحري تستنزف اقتصاد اليمن
حصلت "العربي الجديد" على وثائق تبين حجم التكاليف والنفقات التي تُدفع في ميناء عدن، بعد القرار الجديد والخاص بتقييم الدولار الجمركي عند 500 ريال مقارنة بنحو 250 ريالاً سابقاً، والذي ضاعف أعباء الرسوم الجمركية والضريبية بنسبة تصل إلى ما يقارب 43%، إضافة إلى ضريبة التحسين والتي تضاهي الرسوم الجمركية وتصل إلى حوالي 480 ألف ريال، وتدفع منذ وصول البضائع في الميناء البري أو البحري حتى تصل إلى صنعاء في كل محافظة أو مدينة تمر منها، وهو ما تعتبره مؤسسات القطاع الخاص تعسفاً غير منطقي ومخالفة وتحايلاً على القوانين والتشريعات المعمول بها في اليمن. في المناطق الشمالية كذلك يدفع التجار رسوماً جمركية وضريبية جديدة فيما يسمى مراكز الرقابة المستحدثة للموانئ البرية، حيث يجري تحصيل جمارك وضريبة وتكاليف إضافية تسمى تحسين السعر، وغرامات تقدر بضعف ما تجري جبايته في المناطق الأخرى. وحث صندوق النقد الدولي مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الحالي 2022، السلطات اليمنية على اعتماد تطبيق سعر الصرف السائد في السوق على الإيرادات الجمركية.
ويصف مسؤول الاتصال والإعلام في الغرفة التجارية والصناعية المركزية بأمانة العاصمة صنعاء أحمد حسن، لـ"العربي الجديد" هذه المنظومة من الإتاوات والجبايات بمثابة ظلم يؤثر على المستهلك بشكل كبير، وينهي قدرته الشرائية ويخفض مستوى معيشته. فحكومة عدن بحسب حديثة، يجب ألا تزيد في الرسوم، وعليها أن تكتفي بما هو قائم، إذ تقوم بفرض رسوم غير شرعية هي ضريبة القيمة المضافة بمقدار 5% والتي زادت مؤخراً إلى 10% خصوصاً على التجار العاملين في مناطق شمال اليمن. ويتحدث حسن عن أعباء كثيرة تتمثل في النقل الداخلي من ميناء عدن إلى صنعاء، ومن مختلف المنافذ البرية العاملة في المهرة وحضرموت، فالبضائع تمر عبر طرق غير معبدة لأكثر من 1300 كيلومتر بدلاً من الخطوط السابقة والتي كانت 450 كيلومتراً فقط. وما يجري تحصيله من جبايات وإتاوات بعد هذه التغيرات في خطوط النقل الداخلي قفز إلى ما يقارب مليوني ريال لكل قاطرة بحسب تقديرات تجار وعاملين في النقل التجاري، بينما لم تكن تزيد عن 300 ألف ريال قبل عام 2015.
ويقدر مدير مكتب للتجارة والاستيراد، معتصم سعيد، لـ"العربي الجديد"، ما يُدفع من جبايات على كل حاوية محملة بالبضائع بعد وصولها إلى الموانئ والمنافذ البرية وتفريغ حمولتها لتحملها شاحنات النقل على خطوط سير طويلة ومحفوفة بالمخاطر ونقاط الجبايات، بمبلغ يتراوح بين 800 ألف و1.1 مليون ريال تدفع نقداً لجهات عدة، تقوم بفرض الجبايات على البضائع التجارية بين المناطق اليمنية.
وتشير بيانات تجارية إلى أن إجمالي المدفوعات النقدية الإضافية التي يدفعها المستوردون والذين تأتي بضائعهم عبر ميناء عدن وتنقل إلى مخازنهم في صنعاء بنحو 180 مليار ريال يمني في العام الواحد منذ ما يقارب 4 سنوات. تقارير أممية صادرة خلال العامين الماضيين اتهمت قيادات في جميع الأطراف في اليمن بالإثراء غير المشروع عن طريق هذه السلسلة المتعددة من الجبايات والإتاوات واختلاس الأموال المحصلة من هذه القطاعات والمنافذ الإيرادية العامة الخارجة عن سيطرة ونفوذ الحكومة اليمنية والمؤسسات العامة الرسمية. في السياق، ضاعفت أسعار السلع العالمية المرتفعة الضغوط التَّضخُّمية في اليمن، إذ يؤكد صندوق النقد الدولي أن مستوى التضخم السنوي وصل في أغسطس / آب الماضي إلى ما نسبته 45%، في حين بلغ التضخم في أسعار المواد الغذائية حوالي 58%.
بدوره، يرى أستاذ الاقتصاد بجامعة عدن أمين علي حسن، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن حل التشوهات السعرية يتطلب ممارسة المؤسسات المالية والنقدية والرسمية دورها وصلاحيتها كأوعية تورد إليها مختلف موارد الدولة، وإيجاد حل لبوابة الاستيراد المفتوحة على مصراعيها من الخارج، ورسم وتنفيذ سياسات صارمة للتحكم بالموارد العامة والمعروض النقدي، وانعكاس ذلك بالتالي على معالجة حالات التضخم والانكماش.